-
المرحلة الانتقالية بين التعدد والإقصاء.. الكورد خارج المشهد البرلماني السوري

باتت أنظار السوريين والسوريات والمجتمع الدولي وعدسات الإعلام المحلي والإقليمي والدولي كلها، في خضم التغيرات السياسية العاصفة بالبلد، مصوبة نحو الاستحقاق التشريعي الأول (الانتخابات البرلمانية) بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، وسط تحديات المرحلة الانتقالية المصحوبة بفوضى مسار العملية السياسية والدستورية والحوار الوطني وعملية إعادة الإعمار.
تعد الانتخابات البرلمانية إحدى أهم المحاور المفصلية في ظل المرحلة الانتقالية الراهنة التي تشهدها سوريا، لأنها الأداة الرئيسية لعملية إعادة الشرعية سياسيا ودستوريا بما فيه بناء جسر الثقة من جديد بين الدولة السورية الجديدة والشعب. لكن نزاهة هذه الانتخابات وشفافيتها تصطدم بتحد أساس متمثلا بإقصاء الكورد الذين يشكلون مكونا أصيلا من الجغرافية والنسيج السوري.
هذه العملية ستبقى مبتورة وستواجه خطر إعادة إنتاج الصراعات والنزاعات كما السابق في حال استمرت بالتهميش والإقصاء.
أهمية الانتخابات البرلمانية في المرحلة الانتقالية
بالطبع تعد الانتخابات البرلمانية بعد عقود من الصراعات والأزمات داخل أية دولة نقطة تحول فاصلة في مسار الانتقال، وخطوة سياسية حاسمة فيما يتعلق بعملية إعادة بناء أو كسب الشرعية استناداً للشفافية والتمثيل الحقيقي لجميع مكونات الشعب السوري، وامتحانا حقيقيا للتغيير والانتقال من واقع الحروب إلى خلق دولة مدنية مبنية على عقد اجتماعي جديد يضمن العدالة والمشاركة والمواطنة لجميع السوريين والسوريات.
في المشهد السوري الراهن، لهذه الانتخابات قيمة مضاعفة، كونها تُجرَى بعد أكثر من عقد من الحرب، لذلك فإن نجاح هذا الاستحقاق أو فشله سيؤثر بصورة مباشرة على صيغة وإطار النظام السياسي القادم، ومدى تمكنه من تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة.
الاستحقاق التشريعي في ظل المرحلة الانتقالية ليس هو الهدف بحد ذاته، بل هو بالدرجة الأولى أداة لإعادة بلورة مشهد سياسي جديد قائم على أساس المواطنة والمساواة والمشاركة الحقيقية دون تمييز، واختبار جاد في كيفية الانتقال من منطق التهميش والقوة إلى منطق القانون والشراكة.
وبموجب الانتخابات، فإن البرلمان المنتخب يجب أن يكون انعكاسا حقيقيا للنسيج السوري المتنوع ومراقبا فعالا للحكومة الانتقالية، ولاعبا مفصليا في صياغة دستور جديد للبلاد وسن تشريعات وطنية تكفل المساءلة والعدالة.
مخاطر الإقصاء
يسعى الكورد منذ عقود للمشاركة في العملية السياسية في سوريا، إلا أنه وبعد إجراء الانتخابات التي تمت في الخامس من تشرين الأول الجاري بناء على الإعلان الدستوري الصادر في 13 آذار 2025 بعد الإطاحة بنظام الأسد، في أعقاب حرب أهلية على مدار أربعة عشر عاماً، أسفرت عن إقصاء الكورد من المشاركة السياسية في هذا الاستحقاق التشريعي. هذا الإقصاء لا يمكن اعتباره ملفا حقوقيا فحسب، بل قضية وطنية تحمل بين ثناياها انعكاسات سياسية هائلة تشكل خطرا على نجاح المرحلة الانتقالية بمجمل ملفاتها.
تتمثل مخاطر الإقصاء بإضعاف الفرص التي من شأنها بناء دولة عادلة لامركزية وشاملة على أسس الديمقراطية الحقيقية ذات التمثيل المتساوي. هذا الإقصاء يعني الاستمرار المتعمد للسياسات المركزية من شأنها إعادة إنتاج مشهد سياسي غير عادل وغير مستقر ستُفشِل كل المحاولات الإصلاحية داخل مؤسسات الدولة بصورة جذرية.
محاولة الإقصاء التي تمت تُفقِد العملية الانتخابية والبرلمان الشرعية الوطنية. البرلمان المنتخب بغياب المكون الكوردي في سوريا لن يكون ممثلا حقيقيا في الداخل ولن يُمنح الترحيب من المجتمع الدولي، ما يهدد قدرته في تشكيل الرأي واتخاذ القرارات الحاسمة، بل ويضعف أهليته لمراقبة الحكومة الانتقالية أو بلورة دستور جديد للبلاد.
ينجم عن أي إقصاء أو تهميش للمكون الكوردي الأصيل في سوريا من قبل السلطات الانتقالية الحالية فيما يتعلق بالعملية الانتخابية، تعميق الفجوة بينه وبين السلطات وزيادة حالة الانقسامات القومية والصراعات المحلية والمناطقية. عندما يهمَّش الكورد، سينأون بأنفسهم عن أية مشاركة سياسية قادمة، وسيكرسون كافة الممارسات في سبيل التأكيد على هويتهم الأصيلة داخل الجغرافية السورية كما الأزل، ما يساعد في إضعاف الوحدة الوطنية التي تروج لها السلطات الانتقالية والتي يعمل الجميع من أجل الوصول إليها وتطبيقها بصورة فعلية.
هذا الإقصاء سيرتد بشكل مباشر وسلبي على المصالحة الوطنية بوصفه أحادي الجانب، وبالتالي يصبح الإصلاح سطحيا وهشا، ما يخلق داخل سوريا من جديد نزاعات سياسية واجتماعية تعرقل عملية تشييد عقد اجتماعي يستند إلى الاعتراف والمشاركة والمساواة، لأن أي تجاهل لحق الكورد في التمثيل العادل في ظل المرحلة الانتقالية وإبعادهم عن أي دمج سياسي لن يهدد الكورد فقط، بل يضر العملية الانتخابية وبناء الدولة السورية الجديدة.
نحو عقد وطني لا إقصائي
بناء مستقبل أية دولة خارجة من الحرب لا يمكن تعميره على أنقاض حكم زائل كان مبنياً على التمييز والإقصاء، بل على ركائز التشاركية والمواطنة والاعتراف المتساوي بين كافة الأطراف السورية. استمرار العملية الإقصائية للكورد وتغييب دمجهم سياسيا وانتخابيا في المشهد الانتقالي الراهن، يشكل خطرا جسيما مباشرا ويهدد جوهر فكرة الدولة الجامعة ومبادئ الوحدة الوطنية وتفكيك بنيتها الرمزية ومرجعيتها السياسية.
غياب مشاركة الكورد، الذين كانوا ولا يزالون جزءاً أساسياً من النسيج السوري عبر التاريخ سياسيا وثقافيا، عن أي عملية ديمقراطية سيكون بمثابة تهديد حي لصياغة أي دستور جامع أو تشكيل مجلس وطني للشعب. وهذا يدل بشكل مباشر التكرار المتعمد لممارسات الماضي وأخطائه التي حجَّمت الدور الفعلي للكورد وتمثيلهم. ما سيؤدي إلى إعادة إنتاج نظام جديد قائم على إنكار التعدد والاختلاف لغة وهوية، يهدد استقرار المرحلة المقبلة ويقوِّض المشروع الوطني.
ولبناء مستقبل وطني متوازن في سوريا، لا بد من إشراك الكورد في عملية الاستحقاق التشريعي والمرحلة الانتقالية برمتها، ما يفرض على السلطات الانتقالية الحالية القيام بإصلاحات حقيقية في القوانين ذات الصلة بالعملية الانتخابية وأيضا الدستور، لضمان المساواة وترميم الثقة بين الشعب الكوردي والدولة السورية القادمة. هذه المشاركة ليست مطلبا قوميا أو فئويا، إنما تأكيد جوهري على ضمانة وطنية لإفشال محاولات تفكيك البلد مستقبلا وبالتالي تعزيزها في الحقوق والواجبات داخل سوريا الجديدة كما يتطلع إليها أبناؤها وبناتها، دولة تعزز قيم ومبادئ المواطنة والاختلاف عوضا عن الولاء والخشية من التنوع.
إن لم تبنَ الانتخابات في ظل المرحلة الانتقالية الحالية على ركائز المواطنة والمساواة وعدالة حقيقية، ستكون بلا معنى بوصفها المهدد المباشر لأي مشروع وطني جامع. السلطات الانتقالية اليوم أقصت الكورد عن صنع القرار، ما يعني هدم الثقة قبل بنائها وإضعاف التمثيل الجمعي، وتحولها إلى جسم هش بمنأى عن أي توافق. غياب الشفافية ووهمية صناديق الاقتراع سيدمر أية إرادة سياسية ترتكز على المواطنة والتشاركية والمساواة، فالدولة التي تبنى على وحدة وطنية حقيقية تتسع للجميع، تستمد ديمومتها من عدالة مؤسساتها وتنوع أبنائها، وقوتها من تعدديتها لا من إنكارها وتهميشها، ما يمكِّن الجميع من تحويل الماضي الأليم إلى طاقات سلام واستقرار.
ليفانت: زينه عبدي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!