-
الضربة الإسرائيلية لإيران
-
فلسفة الردع المحسوب وإعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط

إعداد: نايف شعبان
باحث في الشؤون السياسية والقانونية
منتدى الاستقلال للدراسات السياسية والاستراتيجية
بالتعاون مع مركز ليفانت للدراسات والبحوث الاستراتيجية
الملخص التنفيذي
تتناول هذه الدراسة التداعيات الجيوسياسية و الاستراتيجية للضربة الإسرائيلية لإيران في سياق إقليمي و دولي متحول, من خلال تفكيك منطق "الردع المحسوب" كأداة لإعادة تشكيل قواعد الاشتباك في الشرق الأوسط .
تنطلق الورقة من فرضية أن الضربة لم تكن عملاً عسكريا معزولا, بل جزءا من هندسة أمنية و سياسية تسعى إسرائيل من خلالها إلى تفكيك "أسطورة الحصانة الإيرانية", و إعادة تعريف أدوار القوى الإقليمية في ظل التحولات الهيكلية للنظام الدولي .
ترتكز الورقة على منهج تحليل نقدي مقارن, تعيد قراءة الحدث من زوايا نظرية و فلسفية متعددة , خاصة في ضوء المفاهيم الواقعية و البنائية و النماذج التاريخية المقارنة , كما تناقش الورقة وظيفة إيران ضمن الاستراتيجية الأمريكية الممتدة, و تطرح سيناريوهات مستقبلية لتطور الدور الإيراني في ضوء مشروع " الإدماج الابراهيمي " .
الكلمات المفتاحية
الردع المحسوب , إسرائيل , إيران , الشرق الأوسط , الردع النووي , الاستراتيجية الابراهيمية, السياسة الابراهيمية, النظام الإقليمي , الهيمنة , الوكيل الوظيفي .
مقدمة الدراسة
في ظل تفاقم التوترات بين القوى الإقليمية والدولية, تشكل الضربات العسكرية بين إسرائيل و إيران أحد أهم محاور إعادة تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط, غير أن هذه الضربات و على رأسها الضربة الإسرائيلية الأخيرة, تتجاوز الطابع العسكري المباشر, لتأخذ طابعا استراتيجيا أكثر تعقيدا, يتمحور حول إعادة إنتاج قواعد الردع وبناء منظومات نفوذ جديدة .
تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة معمقة للضربة الإسرائيلية الأخيرة في ضوء فلسفة " الردع المحسوب" مستندة إلى أطر نظرية متعددة, تشمل الواقعية الكلاسيكية, و البنائية, ونظرية الردع النووي, ومفاهيم الوظيفية الإقليمية الدولية .
كما تستند الدراسة إلى مقاربات مقارنة عبر نماذج من العراق و سوريا , وتطرح رؤية نقدية لفهم التداخل بين أبعاد القوة الرمزية, و الرسائل المشفّرة في سلوك الفاعلين الدوليين .
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة تمثل فصلا مستقلا ضمن مشروع بحثي أوسع يعمل عليه الباحث سيصدر لاحقا في كتاب بعنوان " السياسة الابراهيمية : خرائط جديدة للهيمنة في الشرق الأوسط " ,ويتناول تحولات الاستراتيجية الإقليمية في ضوء موجة التطبيع والتحالفات الجديدة .
ضرب إيران لإعادة ترتيب الشرق الأوسط؟ قراءة موسعة في أهداف الضربة الإسرائيلية وسيناريوهات الهندسة الأمريكية للمنطقة ...
الفصل الأول: منطق الضربة في فلسفة الردع المحسوب
المقدمة التأسيسية: الردع كفلسفة استراتيجية
يشكّل مفهوم " الردع المحسوب " أحد أهم أعمدة الفلسفة الاستراتيجية في السياسة الدولية الحديثة, وهو يرتكز على فكرة أن الضربات العسكرية ليست أدوات حسم عسكري مباشر فحسب, بل رسائل سياسية معقدة ومشفّرة, تستهدف إعادة تشكيل بيئة القرار لدى الخصم والحلفاء على السواء.
هذا المفهوم, الذي يجد جذوره في النظرية الواقعية للعلاقات الدولية, يعيد تعريف طبيعة القوة العسكرية من كونها مجرد أداة إكراه مادي إلى آلية تواصل استراتيجي معقدة تتداخل فيها الأبعاد النفسية والسياسية و الجيوستراتيجية .
إن فهم منطق " الردع المحسوب " يتطلب العودة إلى الأصول الفلسفية لنظرية الردع النووي التي تبلورت خلال الحرب الباردة, حيث طوّر منظرون أمثال (توماس شيلينغ وهيرمان كان) مفاهيم "التصعيد المحكوم" و"الردع الممتد" و"استراتيجية الحافة", هذه المفاهيم, التي ولدت في سياق التوتر النووي بين القطبين الأعظم, تحوّلت تدريجيا إلى أدوات تحليلية قابلة للتطبيق في سياقات إقليمية ونزاعات محدودة, مما أدى إلى ظهور ما يمكن تسميته "فلسفة الردع التدريجي" أو "Graduated Deterrence" .
السياق التاريخي والتطور المفاهيمي
جذور المفهوم في النظرية الاستراتيجية الكلاسيكية
يمتد تاريخ مفهوم الردع المحسوب إلى كتابات سون تزو في " فن الحرب ", حيث أشار إلى أن " قمة الإتقان في الحرب هي إخضاع العدو دون قتال ", هذه الحكمة الاستراتيجية القديمة تشكل النواة الفلسفية لما سيصبح لاحقا نظرية الردع الحديثة .
في العصر الحديث, تطوّر هذا المفهوم عبر مراحل متعددة :
المرحلة الأولى : ( 1945- 1960 ) تبلور المفهوم الأولي للردع النووي مع ظهور الأسلحة النووية وتطوير " نظرية التدمير المتبادل المؤكد " (MAD) في هذه المرحلة, كان التركيز على الردع الشامل والحاسم .
المرحلة الثانية : ( 1960 – 1980 ) تطوير مفهوم "الردع المرن" أو "Flexible Response" تحت إدارة روبرت مكنمارا, والذي سعى إلى تجاوز خيارية "الكل أو لا شيء" في الاستجابة النووية .
المرحلة الثالثة : ( 1980 – 2000 ) بروز مدرسة "الردع التدريجي" التي طورت مفهوم التصعيد المحكوم والضربات الانتقائية كأدوات دبلوماسية-عسكرية .
المرحلة الرابعة : (2000 – الحاضر ) تطبيق مفاهيم الردع في سياقات إقليمية ونزاعات غير متماثلة, مع ظهور مفهوم "الردع المحسوب" كاستراتيجية لإدارة النزاعات دون الحاجة إلى حسم عسكري شامل .
التأصيل النظري: من شيلينغ إلى الواقعية الهجومية
توماس شيلينغ، في كتابه "استراتيجية النزاع" (1960)، قدم إطارا نظريا لفهم كيف يمكن للتهديد بالقوة أن يكون أكثر فعالية من استخدام القوة ذاتها, مفهومه عن "لعبة الدجاج" و"التزام الذات" أصبح حجر الأساس في فهم ديناميكيات الردع .
بحسب شيلينغ, فإن الردع الفعّال يتطلب ثلاثة عناصر أساسية :
المصداقية (Credibility): يجب أن يكون التهديد قابلا للتصديق من قبل الطرف المُستهدف
التواصل (Communication): يجب أن تكون الرسالة واضحة ومفهومة
التناسب (Proportionality): يجب أن يكون مستوى التهديد متناسبا مع الهدف المرجو تحقيقه
هذه العناصر الثلاثة تشكل الأساس النظري لما نشهده اليوم في سياق الضربة الإسرائيلية لإيران, حيث يمكن قراءة العملية كتطبيق عملي لمبادئ شيلينغ في سياق شرق أوسطي معاصر .
الإطار المفاهيمي: فلسفة الردع في السياق الشرق أوسطي
خصوصية البيئة الاستراتيجية الشرق أوسطية
تتميز البيئة الاستراتيجية في الشرق الأوسط بخصائص فريدة تجعل من تطبيق نظريات الردع الكلاسيكية أمرا معقدا ومتعدد الأبعاد, هذه الخصائص تشمل:
التعددية الإثنية والطائفية : النزاعات في المنطقة ليست مجرد صراعات جيوسياسية تقليدية, بل تحمل أبعادا هوياتية عميقة تجعل من "الحساب الاستراتيجي البارد" أمرا صعب التحقق .
وجود فواعل غير دولاتية : الجماعات المسلحة والميليشيات العابرة للحدود تعقد معادلات الردع التقليدية, حيث أن هذه الجماعات قد لا تستجيب للحوافز ذاتها التي تؤثر على الدول .
التداخل الإقليمي-الدولي: تدخل القوى الكبرى في النزاعات الإقليمية يخلق طبقات متعددة من معادلات الردع, حيث أن أي عمل عسكري محلي قد يكون له تداعيات دولية واسعة .
الطابع الممتد للنزاعات : معظم النزاعات في المنطقة تتخذ شكل "الحروب بالوكالة", مما يعني أن الضربات المباشرة قد لا تحقق الهدف الردعي المطلوب إذا لم تأخذ في الاعتبار شبكة التحالفات والوكلاء .
نظرية "الردع المركب" في السياق الإيراني
في سياق التعامل مع إيران, تبرز الحاجة إلى ما يمكن تسميته "الردع المركب" أو "Composite Deterrence", والذي يتضمن عدة مستويات :
المستوى المباشر: الضربات العسكرية التقليدية ضد الأهداف الإيرانية المباشرة (منشآت نووية, قواعد عسكرية, مراكز قيادة ) .
المستوى غير المباشر: استهداف شبكة الحلفاء والوكلاء الإيرانيين في المنطقة (حزب الله, الحوثيين, الميليشيات العراقية ) .
المستوى الاقتصادي: فرض عقوبات اقتصادية وحصار تكنولوجي لتقييد القدرات الإيرانية .
المستوى الدبلوماسي: عزل إيران دوليا وتقوية التحالفات الإقليمية ضدها .
هذا النهج المركب يعكس فهما عميقا لطبيعة النفوذ الإيراني في المنطقة, والذي لا يقتصر على القوة العسكرية المباشرة بل يمتد إلى شبكة معقدة من التحالفات والنفوذ الأيديولوجي والاقتصادي .
التحليل السياقي للضربة الإسرائيلية : قراءة في المنطق الاستراتيجي
في هذا السياق , جاءت الضربة الإسرائيلية الأخيرة لإيران, لا كتطور ميداني معزول, بل كمشهد تمهيدي لمشروع هندسة سياسية وأمنية جديدة في الإقليم .
الضربة لم تستهدف فقط منشآت نووية, بل استهدفت مفهوم " الطموح الإيراني " برمّته, بوصفه عنصرا مهددا لترتيبات الأمن الجديدة التي تسعى واشنطن إلى ترسيخها .
البعد الرمزي للضربة : تفكيك "أسطورة الحصانة" الإيرانية
إن أحد أهم أبعاد الضربة الإسرائيلية يكمن في بعدها الرمزي والنفسي .
لعقود, بنت إيران صورة عن نفسها كقوة إقليمية "محصنة" من الضربات المباشرة, مستفيدة من عمقها الجغرافي وشبكة تحالفاتها الإقليمية وقدرتها على الرد غير المتماثل, "أسطورة الحصانة" هذه شكلت ركنا أساسيا في الاستراتيجية الإيرانية للردع, حيث اعتمدت طهران على فكرة أن تكلفة ضربها ستكون أعلى من المكاسب المحتملة لأي معتدي .
الضربة الإسرائيلية, بغض النظر عن حجمها المادي, تحطم هذه الأسطورة وترسل رسالة واضحة مفادها أن إيران ليست محصنة من الضربات المباشرة, وأن "قدسية" الأراضي الإيرانية ليست مطلقة في حسابات الصراع الإقليمي, هذا التحطيم للحصانة المتخيلة له تداعيات نفسية واستراتيجية عميقة, حيث يعيد تشكيل حسابات المخاطر والمكاسب في العقل الاستراتيجي الإيراني .
الإطار الزمني والسياق الدولي
تأتي هذه الضربة في سياق دولي معقد يتميز بعدة عوامل :
انتقال في النظام الدولي: العالم يشهد انتقالا من النظام الأحادي القطب (الهيمنة الأمريكية) إلى نظام متعدد الأقطاب, مما يخلق فرصا ومخاطر جديدة للقوى الإقليمية المتوسطة مثل إيران .
التنافس الأمريكي-الصيني: الصراع الاستراتيجي بين واشنطن وبكين يؤثر على ديناميكيات الشرق الأوسط, حيث تسعى كل قوة عظمى إلى تأمين نفوذها في هذه المنطقة الحيوية .
التحولات في السياسة الأمريكية: السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط تشهد تحولا من الانخراط المباشر إلى "الإدارة من الخلف", مما يتيح مساحة أكبر للحلفاء الإقليميين (مثل إسرائيل) لاتخاذ مبادرات عسكرية.
الأزمة الاقتصادية العالمية: الضغوط الاقتصادية العالمية تقيّد قدرة الدول على تحمل تكاليف الصراعات الممتدة, مما يخلق حوافز للحلول السريعة والحاسمة .
النماذج التاريخية المقارنة : دروس من الماضي
نموذج ضربة العراق 1998 (عملية ثعلب الصحراء) : الردع عبر العقاب
لم تكن الغاية إسقاط نظام صدام, بل فرض خطوط حمراء, هذه العملية التي استمرت أربعة أيام (16-19 ديسمبر 1998), تشكل نموذجا كلاسيكيا للردع المحسوب, أهداف العملية كانت واضحة ومحدودة : إضعاف قدرات العراق على تطوير ترسانته العسكرية, أو محاولة تطوير برنامج السلاح الكيميائي , وضمان امتثاله لقرارات مجلس الأمن, دون السعي إلى إسقاط النظام .
الدروس المستفادة من هذا النموذج تشمل:
الوضوح في الأهداف: الأهداف كانت محددة وقابلة للتحقق
التدرج في التصعيد : العملية جاءت بعد سلسلة من التحذيرات والإجراءات الدبلوماسية
الحدود الزمنية الواضحة : العملية لم تكن مفتوحة النهاية
التوافق الدولي النسبي : رغم الاعتراضات,كان هناك فهم دولي لضرورة العمل
تطبيق هذا النموذج على الحالة الإيرانية يشير إلى أن الضربة الإسرائيلية قد تكون جزءا من استراتيجية طويلة المدى لتقييد الطموحات الإيرانية دون الدخول في حرب شاملة .
نموذج العمليات السورية : الردع عبر التحكم بالتصعيد
عملية “ باغوز “ في سوريا في العام 2019: أعادت ضبط قواعد الصراع مع تنظيم الدولة, لا إنهاءه بالضرورة, هذه العملية التي قادها التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة, تقدم نموذجا مختلفا للردع المحسوب, حيث كان الهدف ليس القضاء الكامل على التنظيم, بل تقليص قدراته إلى مستوى "قابل للإدارة" .
الخصائص المميزة لهذا النموذج :
التدخل المحدود : العمليات كانت مركزة جغرافياً وزمنياً
التحالف متعدد الأطراف : تجنب الولايات المتحدة الظهور كقوة احتلال وحيدة
الأهداف التدريجية : بدلا من "النصر الحاسم", كان الهدف تحقيق تدهور تدريجي في قدرات التنظيم
المرونة التكتيكية : القدرة على التكيف مع المتغيرات الميدانية
هذا النموذج يمكن أن يطبق على الحالة الإيرانية من خلال استراتيجية "الاستنزاف المحكوم", حيث تستهدف القدرات الإيرانية بشكل تدريجي ومحسوب لتقليص نفوذها دون إثارة رد فعل كارثي .
نموذج الضربات الإسرائيلية في سوريا: الردع الصامت
منذ عام 2013, نفذت إسرائيل مئات الضربات في سوريا ضد أهداف إيرانية و حلفائها, في إطار ما يسمى "حملة بين الحروب" أو "Campaign Between Wars", هذا النموذج يقدم مثالا متقدماً على الردع المحسوب, حيث تمكنت إسرائيل من تحقيق أهدافها الاستراتيجية (منع ترسيخ النفوذ الإيراني في سوريا) دون إثارة تصعيد واسع النطاق .
خصائص هذا النموذج:
الغموض التشغيلي : إسرائيل نادرا ما تعلن مسؤوليتها عن العمليات
التصعيد التدريجي: كل عملية تبنى على سابقتها دون قفزات كبيرة
الاستهداف الانتقائي : التركيز على أهداف محددة ذات قيمة استراتيجية عالية
التوقيت المحسوب : العمليات تأتي في أوقات تقلل من احتمالية الرد الإيراني
التحليل النقدي : الرؤى المخالفة والتفسيرات البديلة
الرؤية الإيرانية: مقاومة الهيمنة أم مغامرة إقليمية؟
من المنظور الإيراني, تفسر الضربة الإسرائيلية ليس كرد فعل على "تهديدات إيرانية", بل كجزء من مشروع أوسع لفرض الهيمنة الأمريكية-الإسرائيلية على المنطقة, بحسب هذا التفسير, إيران تمثل آخر القوى الإقليمية المستقلة التي تقاوم "النظام الأمريكي" في الشرق الأوسط, والضربة تأتي لكسر هذه المقاومة وإجبار إيران على القبول بدور تابع .
هذا التفسير يقدم قراءة مختلفة للأحداث :
المقاومة الشرعية : النشاط الإيراني في المنطقة يعتبر دفاعاً عن النفس في وجه التطويق الأمريكي-الإسرائيلي
حق الدفاع عن الحلفاء : دعم إيران لحزب الله والحوثيين يفسر كدعم لحركات المقاومة المشروعة
البرنامج النووي السلمي : إيران تؤكد أن برنامجها النووي سلمي ومحاولات منعها منه تعتبر انتهاكا لحقوقها السيادية
النقد اليساري : الإمبريالية المُقنعة
من منظور النقد اليساري الدولي, تقرأ الضربة الإسرائيلية كتعبير عن "الإمبريالية المُقنعة", حيث تستخدم الولايات المتحدة حلفاءها الإقليميين لتنفيذ أجندتها دون تحمل التكاليف السياسية المباشرة, بحسب هذا المنظور, الحديث عن "الردع" و"الأمن" مجرد غطاء إيديولوجي لسياسات توسعية تهدف إلى السيطرة على موارد المنطقة وممراتها الاستراتيجية .
الحجج الرئيسية لهذا النقد :
التبعية الاستراتيجية: إسرائيل تعمل كـ"حامل طائرات" أمريكي في المنطقة
المصالح الاقتصادية: الصراع مع إيران يخدم مصالح الشركات العسكرية والنفطية الأمريكية
تقسيم المنطقة : الهدف الحقيقي هو منع ظهور قوة إقليمية موحدة قادرة على تحدي الهيمنة الغربية
المنظور الواقعي الدفاعي : مخاطر التصعيد غير المحسوب
من منظور الواقعية الدفاعية في العلاقات الدولية, تثير الضربة الإسرائيلية مخاوف جدية حول احتمالية التصعيد غير المحسوب, هذا المدرسة الفكرية, التي تركز على "معضلة الأمن" و"دوامة الأمن-عدم الأمن", تحذر من أن محاولات تعزيز الأمن من جانب واحد قد تؤدي إلى نتائج عكسية .
التحذيرات الرئيسية:
رد الفعل الإيراني: إيران قد تجبر على التصعيد للحفاظ على مصداقيتها
انتشار النزاع: الصراع قد يمتد إلى ساحات جديدة (الخليج, لبنان, العراق)
سباق التسلح الإقليمي: الدول الأخرى قد تسعى لتطوير قدراتها الدفاعية
زعزعة الاستقرار طويل المدى : التركيز على الحلول العسكرية قد يؤجل المشاكل دون حلها
الخلاصة التحليلية : نحو فهم متعدد المستويات
بالقياس على النماذج التاريخية المذكورة, فإن الضربة الإسرائيلية هنا تقرأ كاستراتيجية "تأديب وظيفي" للنظام الإيراني, لا كحرب شاملة , هذا التفسير, رغم منطقيته الظاهرية, يجب أن يُقرأ ضمن سياق أوسع يأخذ في الاعتبار تعقيدات البيئة الاستراتيجية الشرق أوسطية والتحولات الجارية في النظام الدولي .
الضربة تمثل نقطة تحول مهمة في ديناميكيات الصراع الإقليمي, ليس فقط لأنها تحطم "أسطورة الحصانة" الإيرانية, بل لأنها تؤسس لنموذج جديد من " الردع الاستباقي " الذي قد يعيد تشكيل قواعد اللعبة في المنطقة .
النجاح أو الفشل في تحقيق أهداف هذا النموذج سيحدد مسار التطورات الاستراتيجية في الشرق الأوسط للعقد القادم.
في هذا السياق, يصبح فهم منطق الضربة أمرا حيويا ليس فقط لتحليل الحدث ذاته, بل لاستشراف مستقبل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط .
في الفصول التالية من هذه الدراسة سنتعمق في تحليل الأبعاد المختلفة لهذا التحول الاستراتيجي وتداعياته المحتملة على مختلف الفواعل الإقليمية والدولية .
الفصل الثاني : إيران كفاعل وظيفي في الاستراتيجية الأمريكية – نهاية الدور ؟
المقدمة التأسيسية : الجدلية التاريخية للوظيفة الإيرانية
منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003, استخدمت الولايات المتحدة إيران بوصفها فاعلا وظيفيا – وإن غير مباشر – لتحقيق معادلات توازن جديدة في المنطقة, وقد استفادت من التمدد الطائفي الإيراني لإعادة هندسة تحالفاتها التقليدية, عبر التخويف من طهران .
هذه الوظيفة الاستراتيجية تجد جذورها في التاريخ الطويل للتفاعل الأمريكي-الإيراني, الذي يمكن فهمه من خلال عدسة ما يسميه هنري كيسنجر "الشراكة التنافسية" – حيث تتداخل المصالح والتنافس في معادلة جدلية معقدة .
إن فهم الدور الوظيفي الإيراني يتطلب استحضار السياق التاريخي الأوسع للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط, التي تأسست على مبدأ "التوازن بين القوى المتنافسة" منذ عهد الرئيس ترومان , فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي, احتاجت الولايات المتحدة إلى عدو إقليمي يبرر وجودها العسكري وتدخلها السياسي في المنطقة, وقد وفرت إيران, بثوريتها وطموحاتها الإقليمية, البديل المثالي للتهديد السوفييتي السابق .
الأطر النظرية للفاعلية الوظيفية : بين الواقعية والبنائية
لفهم الدور الوظيفي الإيراني بشكل أعمق, يمكن الاستعانة بالمدرسة الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية, خاصة مفهوم "التوازن الهجين" الذي طوره ستيفن والت, وفقا لهذا المفهوم, فإن القوى العظمى لا تسعى دائما للقضاء على التهديدات الإقليمية, بل قد تحافظ عليها في حالة "توازن محكوم" يخدم مصالحها الاستراتيجية الأوسع .
من منظور بنائي, يمكن تحليل الدور الإيراني من خلال مفهوم "الهوية الاستراتيجية المنتجة" الذي اقترحه ألكسندر وندت, فإيران لم تكن مجرد تهديد خارجي, بل شريك في بناء نظام إقليمي جديد يعيد تعريف التحالفات والعداوات بما يخدم الهيمنة الأمريكية, هذا التفاعل البنائي خلق ما يمكن تسميته "اقتصاد الخوف الإقليمي", حيث تتحول المخاوف من التهديد الإيراني إلى سلعة استراتيجية قابلة للتداول والاستثمار .
التحليل التاريخي المقارن: من الشاه إلى الجمهورية الإسلامية
لفهم تطور الدور الوظيفي الإيراني, يجب مقارنة الوظيفة الاستراتيجية لإيران في عهد الشاه مع دورها بعد الثورة الإسلامية.
في عهد الشاه, كانت إيران "شرطي الخليج" المباشر للولايات المتحدة, تلعب دورا وظيفيا إيجابيا في حماية المصالح الأمريكية, أما بعد 1979 فقد تحولت إلى "عدو وظيفي" تهديد محكوم يُستخدم لتبرير السياسات الأمريكية وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية .
هذا التحول يعكس ما يسمى ب "جدلية الثورة والاحتواء", حيث تصبح الثورة نفسها جزءا من النظام الذي تحاول الإطاحة به, فالثورة الإيرانية, رغم راديكاليتها الظاهرة, انتهت إلى خدمة الاستراتيجية الأمريكية الأوسع في المنطقة من خلال توفير التبرير المثالي للهيمنة العسكرية والسياسية .
التحليل الاقتصادي-السياسي : اقتصاد العقوبات كأداة تحكم
إن المشروع الإيراني, وفقا لتحليل غراهام أليسون في مفهوم "الذروة الاستراتيجية"، بدأ يتآكل من داخله . هذا التآكل ليس مجرد نتيجة للضغوط الخارجية, بل نتاج تناقضات بنيوية عميقة في النموذج الاقتصادي-السياسي الإيراني .
الاقتصاد الإيراني يعاني تضخما وانكماشا مزدوجا, وهو ما يعرف في الأدبيات الاقتصادية ب"الركود التضخمي المسيّس", هذه الحالة تنتج عن تداخل العوامل الاقتصادية (العقوبات و سوء الإدارة و الفساد) مع العوامل السياسية (الصراع على السلطة , الاستقطاب الاجتماعي , فقدان الشرعية), إن نظام العقوبات الأمريكي لم يكن مجرد أداة ضغط, بل آلية تحكم دقيقة تهدف إلى إبقاء إيران في حالة "ضعف محكوم" قوية بما يكفي لتشكيل تهديد مبرر, وضعيفة بما يكفي لعدم تجاوز الحدود المرسومة .
الشرعية الثورية تنهار بفعل احتجاجات داخلية عابرة للأيديولوجيا, هذا الانهيار يعكس "أزمة الحداثة الإسلامية"في إيران, حيث تفشل الأيديولوجيا الثورية في تقديم إجابات مقنعة للتحديات المعاصرة .
الحراك الاحتجاجي الإيراني, من حركة 2009 الخضراء إلى احتجاجات "المرأة, الحياة, الحرية" 2022, يكشف عن تحول جيلي عميق في الوعي الاجتماعي, حيث تصبح القيم الثورية التقليدية مصدر نفور بدلا من الالتزام .
وكلاء إيران الإقليميون يواجهون تحديات وجودية في لبنان و العراق, خصوصا بعد انتهاءهم في سوريا , هذه التحديات تتجاوز الضغوط العسكرية أو السياسية العادية, لتصل إلى مستوى أزمة الهوية والوظيفة , حزب الله في لبنان, على سبيل المثال, يواجه تناقضا بنيويا بين دوره كحركة مقاومة, و وظيفته كحزب حكومي في دولة منهارة اقتصاديا, هذا التناقض يخلق ما يمكن تسميته "مأزق الوكيل الوظيفي", حيث يصبح الوكيل عبئا على راعيه بدلا من أن يكون أداة لتحقيق مصالحه .
الأمثلة التوضيحية والتحليل المقارن
انهيار حزب الدعوة في العراق كقوة انتخابية (2021 ) : علامة على تراجع النفوذ الإيراني السياسي, هذا الانهيار يعكس ظاهرة أوسع يمكن تسميتها "أزمة الأحزاب الطائفية الوظيفية", فحزب الدعوة, الذي كان الأداة الرئيسية للنفوذ الإيراني في العراق, فقد قاعدته الشعبية نتيجة فشله في تقديم نموذج حكم فعال, هذا الفشل ليس مجرد نتيجة لسوء الإدارة, بل انعكاس لتناقض أساسي في طبيعة "الحزب الوكيل" الذي يخدم مصالح خارجية بينما يحاول الحفاظ على شرعية داخلية .
مقارنة بتجارب تاريخية مماثلة, يمكن مقارنة أزمة حزب الدعوة بانهيار الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية خلال الثمانينات, في كلا الحالتين, فقدت الأحزاب "الوكيلة" شرعيتها عندما أصبح واضحا أن ولاءها للراعي الخارجي يتعارض مع مصالح مواطنيها, هذا النمط يكشف عن قانون عام في السياسة المقارنة : "قانون التناقص الحدي للوكالة السياسية" حيث تنخفض فعالية الوكيل السياسي تدريجيا كلما ازداد اعتماده على الراعي الخارجي .
حراك تشرين في العراق واحتجاجات إيران 2022: يكشف فقدان السيطرة الاجتماعية والرمزية, هذان الحراكان يمثلان تحولا جيليا في الوعي السياسي, حيث تصبح الهويات الطائفية والأيديولوجية التقليدية أقل أهمية من المطالب الاجتماعية والاقتصادية المباشرة, يمكن فهم هذا التحول من خلال نظرية "ما بعد الحداثة السياسية" ل جان بودريار, حيث تنهار الأيديولوجيات الكبرى ويحل محلها "سياسة الواقع اليومي"مقارنة بالربيع العربي, تختلف احتجاجات تشرين واحتجاجات إيران في كونها تجاوزت الشعارات الديمقراطية العامة إلى مطالب أكثر تحديدا وعملية, هذا التطور يعكس نضجا في الوعي الاحتجاجي, حيث تعلمت الحركات من فشل الموجات الاحتجاجية السابقة وطورت استراتيجيات أكثر واقعية ومرونة .
التفسيرات البديلة والمناقشة النقدية
بينما يطرح هذا التحليل فرضية تراجع الدور الوظيفي الإيراني, توجد تفسيرات بديلة تستحق المناقشة النقدية :
التفسير الأول : نظرية "التكيف الاستراتيجي تقترح أن إيران تعيد تعريف دورها الوظيفي بدلا من فقدانه, وفقا لهذا التفسير, فإن التحديات الحالية تمثل مرحلة انتقالية نحو نموذج جديد من الفاعلية الإقليمية, يقوم على التكيف مع المتغيرات الجيوسياسية الجديدة, أنصار هذا التفسير يشيرون إلى قدرة إيران على البقاء والتأثير رغم عقود من العقوبات والضغوط .
النقد : رغم قوة هذا التفسير, فإنه يتجاهل العمق البنيوي للأزمة الإيرانية, التكيف الاستراتيجي يتطلب موارد ومرونة قد لا تكون متاحة في ظل التراكمات الحالية للأزمات الداخلية والخارجية , و إنما يحتاج للموارد التي تعيقها العقوبات, وللعلاقات الخارجية الأقل عدوانية أو الطبيعية .
التفسير الثاني : نظرية "الدورية التاريخية" تطرح أن صعود وهبوط القوى الإقليمية يتبع أنماطا دورية, وأن إيران تمر بمرحلة انحسار طبيعية ستعقبها مرحلة صعود جديدة, هذا التفسير يستند إلى التحليلات التاريخية الطويلة المدى لدور إيران في المنطقة .
النقد : هذا التفسير يفتقر إلى الاعتبار الكافي للمتغيرات الهيكلية الجديدة في النظام الدولي, خاصة تأثير التكنولوجيا والعولمة على طبيعة القوة الإقليمية .
التفسير الثالث : نظرية "التحول الوظيفي" تقترح أن إيران تنتقل من دور "العدو الوظيفي" إلى دور "الشريك المتحدي" في إطار إعادة توازن أمريكية أوسع مع الصين وروسيا .
النقد : هذا التفسير يبالغ في تقدير القدرة الأمريكية على التحكم في التحولات الجيوسياسية الإقليمية, ويقلل من أهمية الديناميكيات الداخلية في تحديد مسار السياسة الإيرانية .
السياق الفلسفي : جدلية السيد والعبد في العلاقات الدولية
يمكن فهم العلاقة الأمريكية-الإيرانية من خلال جدلية السيد والعبد عند هيجل, حيث يصبح السيد معتمدا على العبد في تعريف هويته وتبرير سلطته, الولايات المتحدة, بوصفها القوة المهيمنة, احتاجت إلى إيران بوصفها "العدو الضروري" لتبرير وجودها وسياساتها في المنطقة, لكن هذه العلاقة الجدلية تحمل بذور تناقضها, فكلما نجحت الولايات المتحدة في إضعاف إيران, قل تبريرها لاستمرار هيمنتها الإقليمية .
هذا التناقض يخلق ما يمكن تسميته "مفارقة العدو الوظيفي", فالعدو الضعيف جدا لا يبرر الهيمنة, والعدو القوي جدا يهددها, الحل يكمن في إبقاء العدو في حالة "توازن ديناميكي", قوي بما يكفي ليكون مبررا, وضعيف بما يكفي ليكون محكوما .
التحليل المستقبلي : سيناريوهات الخروج من الدور الوظيفي
هذا يضع صناع القرار أمام معادلة دقيقة, كيف يُخرجون إيران من مشروعها التوسعي, دون سقوط النظام, وإنما بإعادة برمجته وظيفيا ؟
السيناريو الأول : "الاندماج المشروط" يتضمن تحويل إيران من عدو وظيفي إلى شريك مشروط, على غرار النموذج الصيني في السبعينيات, هذا السيناريو يتطلب تنازلات متبادلة وإعادة تعريف للمصالح الاستراتيجية للطرفين .
السيناريو الثاني : "التفكك المنظم" يهدف إلى تفكيك القدرات الإيرانية التوسعية مع الحفاظ على استقرار النظام الداخلي, من خلال نقل الصراع من المستوى الإقليمي إلى المستوى الداخلي .
السيناريو الثالث : "إعادة البرمجة الوظيفية", يسعى إلى تحويل الطاقة الإيرانية من التوسع الخارجي إلى التنمية الداخلية, مع الحفاظ على الدور الإقليمي في حدود مقبولة .
كل سيناريو يحمل مخاطر وفرص مختلفة, والاختيار بينها يعتمد على تقييم دقيق للمتغيرات الداخلية والخارجية المؤثرة على مستقبل إيران و المنطقة .
الخلاصة التركيبية : نحو فهم جديد للأدوار الوظيفية
إن تحليل الدور الوظيفي الإيراني يكشف عن تعقيدات أعمق في طبيعة النظام الدولي المعاصر, حيث تتداخل العداوة والشراكة, والتنافس والتعاون, في أشكال جديدة من العلاقات الاستراتيجية, هذا التداخل يتطلب أدوات تحليلية أكثر تطورا من الثنائيات التقليدية (صديق/عدو, قوي/ضعيف, مهيمن/تابع) .
المرحلة القادمة تتطلب إعادة تعريف شاملة للأدوار والوظائف في النظام الإقليمي للشرق الأوسط, بما يتجاوز النماذج الوظيفية التقليدية نحو أشكال أكثر تعقيدا ومرونة من التفاعل الاستراتيجي, هذا التحول لا يعني نهاية الدور الإيراني, بل تحوله إلى أشكال جديدة قد تكون أكثر تأثيرا وأقل قابلية للتحكم من النماذج السابقة .
الفصل الثالث : التحول من الردع إلى الإدماج – نحو شرق أوسط إبراهيمي ؟
مقدمة مفاهيمية : من جدلية الصراع إلى منطق الاحتواء
شهدت السياسة الأمريكية في العقدين الأخيرين تحولا جوهريا في فلسفة إدارة الصراعات الإقليمية, إذ انتقلت من النموذج الكلاسيكي القائم على "ردع الخصوم" وتطويقهم, إلى نموذج أكثر تعقيدا يرتكز على "إدماجهم ضمن ترتيبات نفعية" تعيد تشكيل خارطة التحالفات والعداوات, هذا التحول لا يُفهم كانقطاع استراتيجي مفاجئ, بل كتطور طبيعي لمنطق الهيمنة الأمريكية التي تسعى إلى تحقيق الاستقرار بأقل التكاليف وأعلى العوائد الجيوسياسية .
في الشرق الأوسط تحديدا, يتجسّد هذا التحول فيما بات يعرف ب "السياسة الإبراهيمية", وهي إعادة تعريف جذرية للتحالفات الإقليمية تقوم على فرضية أساسية مفادها أن الاستقرار الدائم لا يحقق من خلال القضاء على الخصوم, بل من خلال استيعابهم في نظام إقليمي جديد يحولهم إلى أطراف مصلحية ضمن لعبة جماعية أكبر .
الجذور التاريخية للتحول : من الحرب الباردة إلى الحرب الهجينة
السياق التاريخي للردع الكلاسيكي
لفهم عمق التحول المفاهيمي الحالي, لا بد من استحضار السياق التاريخي الذي تشكلت فيه عقيدة الردع الأمريكية, خلال الحرب الباردة (1947-1991) , قامت الاستراتيجية الأمريكية على مبدأ " الاحتواء" (Containment) الذي صاغه جورج كينان, والذي كان يهدف إلى منع التوسع السوفيتي من خلال بناء جدار من التحالفات والقواعد العسكرية حول المعسكر الشيوعي, هذا المنطق ثنائي القطب كان يقسم العالم إلى معسكرين متضادين, حيث لا مجال للحياد أو المواقف الوسطية .
في الشرق الأوسط, تُرجمت هذه العقيدة من خلال " عقيدة آيزنهاور " (1957) و" عقيدة كارتر " (1980), اللتين أكدتا على الاستعداد الأمريكي لاستخدام القوة العسكرية لحماية المصالح الحيوية في المنطقة, كانت إيران الشاه, إسرائيل, والمملكة العربية السعودية تشكل أركان هذا النظام, فيما وضعت دول مثل سوريا والعراق (قبل 2003) وليبيا القذافي في خانة "دول المواجهة" .
تفكك النموذج الثنائي وظهور التعددية القطبية
مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991, وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام واقع جيوسياسي جديد يتسم بـ " اللحظة أحادية القطب " , لكن هذه اللحظة لم تدم طويلا, إذ سرعان ما برزت قوى إقليمية وعالمية جديدة (الصين, روسيا, الهند, إيران, تركيا) بدأت تتحدى الهيمنة الأمريكية المطلقة وتطالب بإعادة توزيع النفوذ .
في هذا السياق, أصبحت عقيدة الردع الكلاسيكية أقل فعالية وأكثر كلفة, فالحروب الأمريكية في أفغانستان (2001-2021) والعراق (2003-2011) أظهرت حدود القوة العسكرية في تحقيق أهداف سياسية معقدة, كما كشفت عن تكاليف باهظة للهيمنة المباشرة, وفقا لدراسة "مشروع تكاليف الحرب" في جامعة براون, بلغت التكلفة الإجمالية للحروب الأمريكية بعد 11 سبتمبر أكثر من 8 تريليون دولار, مع خسائر بشرية تقدر بمئات الآلاف .
الأسس المفاهيمية للسياسة الإبراهيمية
من الصراع الصفري إلى الألعاب التعاونية
تستند السياسة الإبراهيمية إلى مجموعة من المفاهيم المستمدة من نظرية الألعاب ونظريات التكامل الوظيفي, فبدلا من النظر إلى العلاقات الدولية كألعاب صفرية حيث مكسب طرف يعني خسارة الآخر, تروج هذه السياسة لمفهوم " الألعاب التعاونية " حيث يمكن لجميع الأطراف تحقيق مكاسب متبادلة من خلال التعاون .
هذا المفهوم ليس جديدا تماما في الأدبيات الأكاديمية, فقد طوره ديفيد ميترني في نظريته حول "الوظيفية" (Functionalism) في أربعينيات القرن الماضي, والتي تؤكد على أن التعاون في المجالات التقنية والاقتصادية يمكن أن يؤدي تدريجيا إلى تكامل سياسي أوسع, لاحقا, طور إرنست هاس هذه النظرية في إطار " الوظيفية الجديدة" (Neofunctionalism) التي فسرت نشأة الاتحاد الأوروبي .
التكامل التدريجي والانتشار الوظيفي
تقوم الفلسفة الإبراهيمية على مبدأ " الانتشار الوظيفي" (Functional Spillover) , حيث يُفترض أن التعاون في مجال معين ( مثل التجارة أو التكنولوجيا ) سيؤدي حتما إلى توسيع نطاق التعاون ليشمل مجالات أخرى, هذا المنطق يبرر البدء بمشاريع اقتصادية وتقنية محدودة, على أمل أن تتطور تدريجيا إلى تحالفات استراتيجية شاملة .
لكن هذا المنطق يواجه تحديات جوهرية في السياق الشرق أوسطي, حيث الهويات الدينية والقومية والأيديولوجية تلعب دورا مركزيا في تشكيل السياسات, فخلافا للتجربة الأوروبية التي نشأت في سياق ما بعد قومي, تتعامل السياسة الإبراهيمية مع مجتمعات لا تزال في طور تشكيل هوياتها الوطنية والدينية .
المرتكزات الاستراتيجية للنموذج الإبراهيمي
تسكين النزاعات بدلا من حلّها
يتميز النموذج الإبراهيمي بنهجه البراغماتي تجاه النزاعات, حيث يفضل "تسكين" النزاعات على "حلها" نهائيا, هذا المنهج يستند إلى فرضية أن الحلول النهائية للنزاعات المعقدة غالبا ما تكون مُكلفة ومخاطرة, بينما تسكين النزاعات يتيح إدارتها بتكلفة أقل ومخاطر محدودة .
في السياق الفلسطيني-الإسرائيلي, تُترجم هذه الفلسفة من خلال تجاهل القضايا الجوهرية ( القدس, اللاجئون, الحدود ) والتركيز على بناء "وقائع جديدة" من خلال التطبيع بين إسرائيل والدول العربية, الهدف هو خلق شبكة من المصالح المتشابكة تجعل من الصعب العودة إلى حالة الصراع المفتوح, حتى لو لم تُحل القضايا الأساسية .
هذا النهج يتماشى مع نظرية " إدارة الصراع" (Conflict Management) مقابل "حل الصراع" (Conflict Resolution) التي طورها علماء السياسة , أمثال أشلي هامبتون, وفقا لهذه النظرية, بعض النزاعات لا يمكن حلها نهائيا, ولكن يمكن إدارتها بحيث تصبح أقل عنفًا وأكثر قابلية للتنبؤ .
تحويل الخصوم إلى شركاء مشروطين
المبدأ الثاني للنموذج الإبراهيمي يقوم على فكرة " الشراكة المشروطة " مع الخصوم السابقين, بدلاً من السعي لإقصائهم أو هزيمتهم نهائيا, يتم استيعابهم في نظام إقليمي جديد يحدد لهم أدوارا محددة ومحدودة.
هذا المنطق يستند إلى نظرية " التوازن مقابل التملق" (Balancing vs. Bandwagoning) في العلاقات الدولية, فعندما تواجه دولة قوة مهيمنة, لديها خيارات , إما الانضمام إلى تحالف مضاد للموازنة ضدها (Balancing)، أو الانضمام إليها والاستفادة من قوتها (Bandwagoning) , النموذج الإبراهيمي يسعى لجعل الخيار الثاني أكثر جاذبية من خلال تقديم حوافز اقتصادية وأمنية مجزية .
دمج الاقتصاد بالتكنولوجيا والثقافة لبناء أمن ناعم
الركيزة الثالثة تتمثل في بناء " أمن ناعم " يقوم على الترابط الاقتصادي والتكنولوجي والثقافي بدلا من التحالفات العسكرية التقليدية, هذا المفهوم مستوحى من نظرية "السلام الديمقراطي" التي تؤكد على أن الدول المترابطة اقتصاديا أقل ميلا للحرب ضد بعضها البعض .
في السياق الشرق أوسطي, يترجم هذا من خلال مشاريع الربط الرقمي, شبكات الطاقة المتجددة, المشاريع السياحية المشتركة, والتبادل الثقافي, الهدف هو خلق "مجتمع أمني" إقليمي يكون فيه اللجوء للعنف مكلفا جدا لجميع الأطراف .
النماذج التطبيقية المعززة
منتدى النقب 2022 : نموذج أولي للتحالف الإبراهيمي
يعتبر "منتدى النقب" الذي عقد في مارس 2022 بمثابة المختبر الأول للسياسة الإبراهيمية, ضم المنتدى وزراء خارجية إسرائيل, الإمارات العربية المتحدة, البحرين, مصر, المغرب, والولايات المتحدة, في محاولة لإرساء أسس نظام إقليمي جديد يتجاوز التقسيمات التقليدية .
ما يميز هذا المنتدى عن التجمعات الإقليمية السابقة هو تركيزه على القضايا الوظيفية بدلا من الشعارات السياسية, فقد ناقش المشاركون موضوعات تقنية مثل الأمن الغذائي, تغير المناخ, التكنولوجيا النظيفة, والربط الرقمي, هذا النهج يعكس إيمانا بأن التعاون في هذه المجالات "المحايدة" سياسيا يمكن أن يبني ثقة تدريجية تسهل التعاون في المجالات الأكثر حساسية لاحقا .
لكن المنتدى واجه أيضا تحديات كبيرة, أبرزها غياب أطراف إقليمية مهمة مثل السعودية وتركيا وإيران, كما أن التطورات اللاحقة, خاصة الحرب في غزة, أظهرت هشاشة هذا النموذج أمام الأزمات الحادة .
الممر الهندي الأوروبي : إعادة رسم جغرافيا التجارة
يمثل مشروع "الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي الأوسطي" الذي أُعلن عنه في قمة العشرين بنيودلهي (سبتمبر 2023) النموذج الأكثر طموحا للسياسة الإبراهيمية, يهدف المشروع إلى ربط الهند بأوروبا عبر الخليج العربي والأردن وإسرائيل, من خلال شبكة من السكك الحديدية وأنابيب الطاقة وكابلات الإنترنت .
الأهمية الجيوسياسية لهذا المشروع تكمن في كونه يقدم بديلا عن "مبادرة الحزام والطريق" الصينية, ويهمّش إيران جغرافيا واقتصاديا من خلال تجاوزها كليا, فبدلا من المرور عبر إيران في الطريق التقليدي بين آسيا وأوروبا, يوجه المشروع التجارة عبر دول موالية للغرب .
من ناحية أخرى, يواجه المشروع تحديات هائلة, أبرزها الوضع الأمني المضطرب في المنطقة, وارتفاع التكاليف الاستثمارية, والحاجة إلى تنسيق معقد بين دول متعددة, كما أن فعاليته الاقتصادية محل شك, خاصة مقارنة مع الطرق البحرية التقليدية التي تبقى أرخص وأكثر مرونة .
التكامل التكنولوجي : من الدفاع إلى الازدهار
يشكل التعاون التكنولوجي العمود الفقري للنموذج الإبراهيمي, خاصة في مجالات الدفاع, الطاقة المتجددة, والتكنولوجيا الزراعية, إسرائيل, بقدراتها التكنولوجيا المتقدمة, توضع في موقع المصدّر الرئيسي للتكنولوجيا, بينما الدول العربية توفر الأسواق ورؤوس الأموال .
هذا النموذج يذكّر بالعلاقة بين اليابان ودول جنوب شرق آسيا في السبعينيات والثمانينيات, حيث قادت اليابان عملية تصنيع إقليمية من خلال نقل التكنولوجيا والاستثمار, لكن السياق الشرق أوسطي مختلف, حيث العوامل السياسية و الهوياتية تلعب دورا أكبر من الاعتبارات الاقتصادية البحتة .
التحديات والمقاربات النقدية
النقد من منظور الواقعية السياسية
من منظور المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية, التي يمثلها مفكرون مثل جون ميرشايمر وستيفن والت, فإن السياسة الإبراهيمية تعاني من "مغالطة ليبرالية" أساسية, فهي تُهمل دور القوة والأمن في تشكيل سلوك الدول, وتبالغ في أهمية العوامل الاقتصادية والثقافية .
وفقا لهذا المنظور, فإن إيران وتركيا, كقوى إقليمية صاعدة, لن تقبلا بنظام إقليمي يهمشهما, مهما كانت الحوافز الاقتصادية المقدمة, التاريخ يُظهر أن القوى الصاعدة تسعى حتما لتحدي الوضع القائم وإعادة تشكيله لصالحها, كما حدث مع ألمانيا في بداية القرن العشرين أو الصين اليوم .
النقد من منظور نظرية التبعية
من جهة أخرى، ينتقد النموذج الإبراهيمي من منظور "نظرية التبعية" التي طورها مفكرون أمثال فرناندو كاردوسو , وفقا لهذا المنظور, فإن النموذج الإبراهيمي لا يحقق تنمية متوازنة, بل يعمق التبعية التكنولوجية والاقتصادية للمنطقة تجاه القوى المهيمنة .
فإسرائيل والولايات المتحدة تحتفظان بالتقنيات المتقدمة والقدرات البحثية, بينما الدول العربية تختزل في دور الأسواق وموردي رؤوس الأموال, هذا النموذج قد يحقق نموا اقتصاديا قصير المدى, لكنه لا يساعد على بناء قدرات ذاتية مستدامة .
التحدي الديمقراطي والشرعية الشعبية
التحدي الأكبر للنموذج الإبراهيمي يكمن في افتقاره للشرعية الشعبية في معظم البلدان العربية, استطلاعات الرأي المتكررة تظهر معارضة شعبية واسعة للتطبيع مع إسرائيل, خاصة في ظل استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي .
هذا الواقع يضع النخب الحاكمة العربية في موقف حرج, حيث عليها الموازنة بين المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية للتحالف مع إسرائيل, وبين الحفاظ على الشرعية الداخلية, في حالة وقوع أزمات كبرى, مثل التصعيد العسكري الحالي في غزة و الضفة الغربية, قد تجد هذه النخب نفسها مضطرة للتراجع عن التطبيع للحفاظ على الاستقرار الداخلي .
إعادة قراءة الضربة الإسرائيلية في السياق الإبراهيمي
من الردع إلى الرسائل المُشفرة
في ضوء هذا التحليل, يمكن إعادة قراءة الضربات الإسرائيلية ضد إيران ليس كمحاولة لتدميرها أو إقصائها نهائيا, بل كـ "رسائل مُشفرة" تهدف إلى إقناعها بضرورة التكيف مع النسق الإقليمي الجديد, هذا المنطق يستند إلى نظرية " التصعيد المُتحكم فيه" (Controlled Escalation) التي تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية من خلال استخدام متدرج ومحدود للقوة .
الهدف ليس تدمير القدرات الإيرانية بالكامل, بل إظهار التكلفة العالية للمواجهة المباشرة, وفي نفس الوقت ترك الباب مفتوحا أمام إيران للانضمام إلى النظام الإقليمي الجديد بشروط معدلة, هذا يفسر الطبيعة "المحدودة" للضربات الإسرائيلية, والتي تركز على أهداف رمزية كالنووي و المخزون البالستي ومصانع تطوير الصواريخ كأهداف استراتيجية حاسمة .
التوقيت الاستراتيجي والحسابات المعقدة
التوقيت الذي تشن فيه هذه الضربات ليس عشوائيا, بل يأتي في سياق تطورات إقليمية ودولية معقدة, فمن جهة, تسعى إسرائيل لاستغلال الضعف النسبي لإيران داخليا و خارجيا , ومن جهة أخرى, تريد إرسال رسالة للدول العربية المترددة بأن التحالف مع المحور الإبراهيمي يوفر حماية فعالة من التهديدات الإيرانية .
في نفس الوقت, هناك حسابات أمريكية معقدة تدخل في المعادلة, واشنطن تريد تجنب تصعيد شامل قد يعرقل أولوياتها الاستراتيجية في مواجهة الصين, لكنها تريد أيضا الحفاظ على مصداقيتها كحليف موثوق, الضربات "المحدودة" تحقق هذا التوازن الحرج بين الردع والاحتواء .
المسارات المستقبلية ومحددات النجاح
النموذج الإبراهيمي, كما يتبين من هذا التحليل, ليس مجرد ترتيب تكتيكي مؤقت, بل محاولة جادة لإعادة هيكلة النظام الإقليمي الشرق أوسطي على أسس جديدة, نجاح هذا النموذج يتوقف على عوامل متعددة ومتداخلة :
أولاً , قدرة القائمين عليه على إدارة التوترات الداخلية والتناقضات البنيوية, خاصة بين المطالب الشعبية العربية والمصالح الجيوسياسية للنخب الحاكمة .
ثانيا , مرونة النموذج في استيعاب القوى الإقليمية المهمة مثل إيران وتركيا, أو على الأقل تحييدها بحيث لا تشكل تهديدا وجوديا للترتيبات الجديدة .
ثالثا , قدرة النموذج على تحقيق مكاسب ملموسة ومتوازنة لجميع الأطراف, بحيث يصبح الحفاظ عليه أولوية استراتيجية وليس مجرد تكتيك مؤقت .
إن الضربة الإسرائيلية, إذا قُرئت ضمن هذا المنظور الأوسع, تصبح جزءا من استراتيجية أكبر تهدف إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط, ليس من خلال الهيمنة المباشرة أو الإقصاء النهائي للخصوم, بل من خلال بناء نظام إقليمي جديد يوازن بين الاستقرار والمرونة, وبين الردع والإدماج, نجاح أو فشل هذه الاستراتيجية سيحدد شكل المنطقة للعقود القادمة .
الفصل الرابع : العقبات البنيوية أمام تحقيق هذا المشروع
مقدمة مفاهيمية: طبيعة العقبات البنيوية في النظم الجيوسياسية
تشكل العقبات البنيوية في السياق الجيوسياسي مجموعة من القيود المؤسسية والهيكلية التي تتجاوز الإرادة السياسية المؤقتة للفاعلين, وتتجذر في عمق التكوينات التاريخية والاقتصادية والثقافية للدول والمناطق, هذه العقبات, وفقا لمدرسة الواقعية البنيوية في العلاقات الدولية, لا تنبع من سوء النية أو النوايا العدائية فحسب, بل من طبيعة النظام الدولي ذاته كما أسسه كينيث والتز في نظريته حول "النظرية البنيوية للسياسة الدولية" (1979).
في سياق مشروع إعادة ترتيب المنطقة الشرق أوسطية، تتضافر هذه العقبات البنيوية لتشكل ما يمكن تسميته بـ"المعضلة الأمنية المركبة", حيث تتداخل المخاوف الأمنية التقليدية مع التحديات الاقتصادية والهوياتية والأيديولوجية في شبكة معقدة من التفاعلات المتبادلة, هذا التعقيد يستدعي تطبيق المنهج النظمي في التحليل, الذي ينظر إلى المنطقة كنظام مترابط تؤثر فيه كل وحدة على الوحدات الأخرى عبر حلقات التغذية الراجعة الإيجابية والسلبية .
الإطار النظري: من الواقعية الكلاسيكية إلى البنائية الاجتماعية
المقاربة الواقعية التقليدية
تفسر المدرسة الواقعية الكلاسيكية, هذه العقبات من منظور توازن القوى والمصالح الوطنية الثابتة, من هذا المنظور, تسعى كل دولة إلى تعظيم قوتها النسبية وضمان أمنها, مما يخلق حتمية الصراع أو التنافس حتى لو لم تكن النوايا عدائية في الأصل, هذا ما يسمى بـ "معضلة الأمن" التي طورها جون هيرز, حيث تؤدي الجهود الدفاعية لدولة ما إلى تهديد أمن الدول الأخرى, مما يدفعها لتعزيز قدراتها العسكرية في حلقة مفرغة من التسلح المتبادل .
البعد البنائي الاجتماعي
أما المدرسة البنائية الاجتماعية, كما طورها ألكسندر وندت في "النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية" (1999), فتركز على كيفية تشكيل الهويات والمصالح من خلال التفاعل الاجتماعي والثقافي, من هذا المنظور, فإن العقبات البنيوية ليست مجرد نتاج لتوزيع القوة المادية, بل هي أيضا انعكاس للبنى المعرفية والثقافية التي تحدد كيف تفهم الدول مصالحها وتعرّف هوياتها في علاقتها مع الآخرين .
النظرية المؤسسية الليبرالية
تضيف النظرية المؤسسية الليبرالية, كما طورها روبرت كيوهان وجوزيف ناي, بعدا ثالثا يركز على دور المؤسسات الدولية والاعتماد المتبادل في تشكيل سلوك الدول, من هذا المنظور, تنشأ العقبات البنيوية أيضا من عدم توافق المؤسسات القائمة مع متطلبات التعاون الجديد, وكذلك من تباين مستويات الاعتماد المتبادل بين الفاعلين المختلفين .
التحليل المتدرج للعقبات البنيوية الأساسية
1. الصين : الاستراتيجية الأوراسية والتنافس الجيواقتصادي
السياق التاريخي والجيوستراتيجي
تمثل الصين في المعادلة الشرق أوسطية فاعلا جيوستراتيجيا متصاعدا يسعى إلى ترجمة قوته الاقتصادية إلى نفوذ سياسي وأمني, اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع إيران لمدة 25 عاما, الموقع في مارس 2021, يمثل تطبيقا عمليا لاستراتيجية بكين في "مبادرة الحزام والطريق" التي تهدف إلى ربط آسيا وأوروبا وأفريقيا في شبكة اقتصادية ولوجستية متكاملة تحت الهيمنة الصينية .
هذا الاتفاق يتجاوز الأبعاد الاقتصادية ليشمل التعاون العسكري والتكنولوجي, حيث تتعهد الصين باستثمار 400 مليار دولار في البنية التحتية الإيرانية مقابل ضمان إمدادات الطاقة طويلة المدى بأسعار مخفضة, هذا الترتيب يحول إيران إلى "جسر أوراسي" استراتيجي يربط الصين بأوروبا عبر روسيا وآسيا الوسطى, مما يُعزز من الموقع الجيوستراتيجي لطهران ويجعلها عقدة محورية في الشبكة اللوجستية الصينية .
التحليل الاقتصادي السياسي
من منظور الاقتصاد السياسي الدولي, تسعى الصين إلى تطبيق ما يُسمى ب "الدبلوماسية الاقتصادية الاستراتيجية", حيث تستخدم استثماراتها الضخمة لخلق روابط تبعية طويلة المدى, هذا النهج, المعروف بـ "فخ الديون" أو "دبلوماسية فخ الديون", يهدف إلى جعل الدول المستقبلة للاستثمارات الصينية مرتبطة هيكليا بالنظام الاقتصادي الصيني .
في الحالة الإيرانية, تتجلى هذه الاستراتيجية في السيطرة الصينية على موانئ استراتيجية مثل ميناء چابهار, وتطوير البنية التحتية للسكك الحديدية التي تربط إيران بالشبكة الآسيوية, وكذلك في مجال التكنولوجيا المتقدمة خاصة في قطاعات الاتصالات والذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة .
الأبعاد الأمنية والاستراتيجية
على الصعيد الأمني, تشهد العلاقات الصينية الإيرانية تطورا متزايدا في مجال التعاون العسكري والتقني, التدريبات البحرية المشتركة في المحيط الهندي, وتطوير أنظمة الدفاع الجوي, ونقل التكنولوجيا العسكرية, كلها مؤشرات على عمق الشراكة الاستراتيجية التي تتجاوز الحدود الاقتصادية .
هذا التطور يشكل تحديا مباشرا للاستراتيجية الأميركية في المنطقة, حيث يقوض من فعالية العقوبات الاقتصادية ويوفر لإيران بديلا استراتيجيا عن النظام المالي والتجاري الغربي, كما يعزز من قدرة إيران على مقاومة الضغوط الدولية ويقلل من حوافزها للدخول في تسويات إقليمية قد تتطلب تنازلات جوهرية .
التفسيرات البديلة والنقد
هناك رؤية بديلة تُجادل بأن الشراكة الصينية الإيرانية أقل استدامة مما تبدو عليه, نظرا لاختلاف الأولويات الاستراتيجية والثقافية بين البلدين, هذه الرؤية, المدعومة من باحثين مثل جون غارفر في " الصين وإيران : شراكة الضرورة ", تشير إلى أن العلاقة تقوم على المنفعة المتبادلة قصيرة المدى أكثر من الرؤية الاستراتيجية طويلة المدى المتوافقة .
علاوة على ذلك, تواجه الصين تحديات داخلية متزايدة في إدارة علاقاتها مع إيران, خاصة في ضوء الضغوط الأميركية والأوروبية المتزايدة, هذا قد يدفع بكين إلى إعادة تقييم مستوى التزامها تجاه طهران, خاصة إذا تعارض ذلك مع مصالحها الاقتصادية الأوسع مع الغرب .
2. روسيا : التحالف الاستراتيجي والمعضلة السورية
الجذور التاريخية للتحالف الروسي الإيراني
العلاقة بين روسيا وإيران ليست تحالفا ناشئا, بل تشكلت عبر قرون من التنافس والصراع والتحالف المرحلي , ورغم الخلافات التاريخية, خصوصا في القوقاز وآسيا الوسطى, فقد شكلت التحوّلات الكبرى كسقوط الاتحاد السوفييتي, وصعود الولايات المتحدة كقوة أحادية, مصلحة مشتركة لدى البلدين في مواجهة الهيمنة الغربية .
مع الثورة الإيرانية عام 1979, بدأت تتبلور ملامح تعاون براغماتي, سرعان ما تعزز في تسعينيات القرن العشرين, ثم تحول منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015 إلى شبه تحالف استراتيجي, قاعدته الأساسية هي تقاطع الأهداف في الميدان السوري, وقد وُصف هذا التحالف أحيانا بأنه جزء من "محور المقاومة الأوراسي", الذي يحاول أن يبتكر صيغة لموازنة النفوذ الأميركي عبر التلاقي بين الدول المنبوذة من المنظومة الغربية .
التنسيق العسكري والأمني : نموذج سوريا
بلغ التعاون العسكري ذروته في سوريا, حيث جسّد الطرفان نموذجا معقدا من تقسيم العمل الاستراتيجي, روسيا تولت الغطاء الجوي والاستخباري والتفوق التكنولوجي, بينما قدمت إيران آلاف المقاتلين من الحرس الثوري والميليشيات المرتبطة به, هذا التناغم الميداني أنقذ النظام من الانهيار, لكنه أوجد في الوقت نفسه مسرحا لصراع نفوذ مستتر بين موسكو وطهران حول من يمتلك القرار النهائي في الشأن السوري .
في حالات كثيرة, كان التنسيق يخفي تحت سطحه تنافسا على البنية العسكرية والأمنية للدولة السورية, فروسيا ركزت على بناء قوات نخبوية (مثل الفيلق الخامس) مرتبطة بها, بينما عززت إيران نفوذها عبر اختراق المؤسسات الرسمية, والتغلغل الاجتماعي والمذهبي في مناطق متعددة .
المصالح الاقتصادية و الجيواستراتيجية
التحالف الروسي الإيراني لم يكن عسكريا فقط, بل مدعوما بمصالح اقتصادية وهيكلية, فالعقوبات الغربية دفعت الطرفين إلى تطوير نظام مقايضة مالي وتجاري, بما يشمل الطاقة, الزراعة, والبنية التحتية, ومشروع القناة بين بحر قزوين والخليج, والتعاون في خطوط الغاز والسكك الحديدية, كلها مشاريع تعكس محاولة خلق نظام اقتصادي بديل عن المنظومة الأطلسية .
لكن هذه المصالح كانت دوما محكومة بـ "سقف الضرورة", إيران تريد الانفتاح على أوروبا والصين, وروسيا تبحث عن شراكة مستقرة مع دول الخليج وإسرائيل, هذا التناقض في الأولويات جعل التحالف هشا, رغم مظاهره الصلبة .
سقوط النظام في دمشق وتحوّلات ما بعد إيران
في السيناريو الجديد الذي فرضه الواقع, سقوط النظام السوري, و خروج إيران وميليشياتها, وبقاء روسيا في حالة تفاوض مع الحكومة السورية الجديدة, تعرضت البنية التي قام عليها التحالف الروسي الإيراني لهزة جذرية, إذ لم تعد موسكو وطهران تتشاركان "النظام نفسه" كحليف, بل أصبح كل منهما يقرأ المشهد السوري من زاوية مختلفة .
هذا الحدث يعد مفصليا ليس فقط في ميزان القوى داخل سوريا, بل أيضا في التوازن داخل محور موسكو–طهران, إذ إن سقوط الأسد مثّل انهيار نقطة الالتقاء الأهم بين الدولتين, وبهذا المعنى, أصبح استمرار التحالف موضع تساؤل, خصوصا أن طهران فقدت أدواتها الميدانية والأمنية, بينما تحاول موسكو الحفاظ على جزء من نفوذها عبر التفاوض .
انهيار ركيزة الميدان : حزب الله من ورقة إلى عبء
من بين أكثر التداعيات لافتا هي الضربة التي تلقاها حزب الله اللبناني, الذراع الإقليمي الأبرز لإيران, فللمرة الأولى منذ نشأته, يتعرض الحزب لما يمكن وصفه بـ "تفكيك استراتيجي"
تصفية قيادات الصف الأول عبر عمليات دقيقة .
تدمير البنية الصاروخية ومخازن الأسلحة تحت الأرض .
استهداف مراكزه في الضاحية والجنوب اللبناني ما أدى إلى خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة في "الحاضنة الشيعية" .
هذا التحول العنيف جعل الحزب عبئا داخليا على لبنان بدلا من أن يكون درعا للمقاومة, فالجمهور الذي طالما شكل سندا شعبيا للحزب بدأ بطرح أسئلة حول جدوى استمرار المغامرات العسكرية, في ظل غياب الغطاء السياسي الإقليمي والدولي, وانهيار الاقتصاد اللبناني .
بالنسبة لإيران, فإن انهيار هذا الذراع يعد انتكاسة حادة في مشروعها للهيمنة عبر الوكلاء, أما موسكو فتنظر إلى ذلك باعتباره ضعفا في أوراقها التفاوضية الإقليمية, خاصة إذا ما أرادت استخدام وجودها في سوريا كورقة للضغط على إسرائيل أو واشنطن .
تناقضات وتحديات تقوّض الاستمرار
رغم الترابط الظاهري, تعاني العلاقة الروسية الإيرانية من تناقضات بنيوية :
في القوقاز, تقف روسيا إلى جانب أرمينيا, بينما تقيم إيران علاقات استراتيجية مع أذربيجان .
في آسيا الوسطى, تسعى روسيا لإعادة ترسيخ هيمنتها ضمن الفضاء السوفيتي السابق, بينما تنظر إيران إلى هذه الدول كبوابة لتوسيع نفوذها الشيعي والثقافي .
في سوريا الجديدة, يبدو أن إيران باتت خارج المعادلة, فيما تحاول روسيا أن تلعب دور "الوسيط الشرعي" مع الحكومة الجديدة .
وبذلك, لم يعد هناك مشروع مشترك حقيقي, بل مسارات متباعدة تحكمها الضرورات التكتيكية لا الرؤية الاستراتيجية .
محور يتفكك أم يُعاد تركيبه؟
إذا كانت العلاقة الروسية الإيرانية في السابق تقوم على تقاطع الضرورات, فإن المتغيّرات الأخيرة, من سقوط النظام في سوريا إلى تراجع حزب الله, تجعل من استمرار التحالف محلا للشك .
روسيا اليوم تفاوض دمشق الجديدة لا طهران, وتحاول الحفاظ على قواعدها من خلال شرعنة وجودها عبر اتفاقيات جديدة, وإيران لم تعد تمتلك ورقة سوريا, ولا ورقة لبنان, ما يجعلها شريكا فائضا عن الحاجة في أعين موسكو .
في ظل هذا, قد نشهد إعادة رسم التحالفات الإقليمية الكبرى, وربما خروج روسيا من ظل "محور المقاومة" نحو صيغة جديدة من الشراكة مع قوى سنّية أو حتى أطراف دولية, تحاكي التطورات الجيوسياسية التي فرضها الواقع على الأرض .
3. تركيا : التحديات الهوياتية والمنافسة الإقليمية
الإرث العثماني والهوية الجيوسياسية التركية
تمثل تركيا حالة فريدة في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط, حيث تجمع بين الإرث التاريخي العثماني والهوية الإسلامية والموقع الجيوستراتيجي الفريد بين أوروبا وآسيا, منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002, شهدت السياسة الخارجية التركية تحولا جذريا من التوجه الغربي التقليدي إلى ما يسمى بـ "العثمانية الجديدة", كما صاغها أحمد داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي" .
هذا التوجه الجديد يؤسس للعودة التركية إلى مناطق النفوذ التاريخي العثماني, خاصة في البلقان والشرق الأوسط والقوقاز وشمال أفريقيا, في هذا السياق, تنظر أنقرة إلى مشروع "الاتفاقات الإبراهيمية" كمحاولة لتهميش دورها التاريخي في المنطقة وإقصائها من التوازنات الجديدة .
المنافسة مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات
تشهد العلاقات التركية مع دول الخليج, خاصة السعودية والإمارات, توترا متزايدا حول القضايا الإقليمية والأيديولوجية, دعم تركيا لحركة الإخوان المسلمين, وتدخلها في ليبيا وسوريا, ومواقفها من الأزمة الخليجية, كلها عوامل تعقد من إمكانية اندماجها في أي نظام إقليمي جديد تقوده السعودية أو الإمارات .
في ليبيا, تدعم تركيا حكومة طرابلس المعترف بها دوليا, بينما تدعم الإمارات ومصر الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر, هذا التنافس يعكس صراعا أوسع على النفوذ في حوض المتوسط وشمال أفريقيا, حيث تسعى كل قوة إلى تعزيز موقعها الاستراتيجي .
الملف السوري والتعقيدات الأمنية
في سوريا, تجد تركيا نفسها في موقف معقد حيث تتداخل اعتباراتها الأمنية مع طموحاتها الجيوسياسية, مخاوفها من تشكيل كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية يدفعها للحفاظ على وجود عسكري في شمال سوريا, مما يعقد من أي تسوية شاملة للوضع السوري بحسب الرؤية الإقليمية و الغربية .
التنسيق التركي مع روسيا في سوريا, رغم التنافس في مناطق أخرى, يُظهر البراغماتية التركية في إدارة علاقاتها الإقليمية, هذه البراغماتية قد تفتح المجال لدور تركي في أي تسوية إقليمية شاملة, لكنها تتطلب اعترافا بالمصالح التركية الأساسية .
موقف تركيا من التطبيع العربي الإسرائيلي
تنظر تركيا بحذر شديد إلى موجة التطبيع العربي الإسرائيلي, ليس فقط لاعتبارات أيديولوجية تتعلق بالقضية الفلسطينية, بل أيضا لمخاوف جيوستراتيجية من تشكيل محور إقليمي يقصيها من التوازنات الجديدة, التحسن النسبي في العلاقات التركية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة يشير إلى إمكانية دمج تركيا في أي ترتيب إقليمي جديد, لكن ذلك يتطلب ضمانات حول دورها ومصالحها .
4. الداخل الإيراني: تعقيدات البنية السياسية والاقتصادية
بنية السلطة المعقدة في النظام الإيراني
يشكل النظام السياسي الإيراني حالة فريدة من التعقيد المؤسسي, حيث تتداخل مؤسسات منتخبة مع أخرى معينة في شبكة معقدة من السلطات والصلاحيات, هذا التعقيد, الذي يسمى أحيانا بـ "النظام المزدوج", يخلق ديناميكيات داخلية معقدة تؤثر على قدرة النظام على اتخاذ قرارات استراتيجية سريعة أو جذرية .
الحرس الثوري الإيراني, كمؤسسة مستقلة نسبيا عن الحكومة المنتخبة, يُمثل أحد أهم العقبات البنيوية أمام أي انفتاح واسع النطاق, هذه المؤسسة لا تلعب دورا أمنيا وعسكريا فحسب, بل تسيطر على شبكة واسعة من المصالح الاقتصادية التي قد تتضرر من أي انفتاح اقتصادي كبير على الغرب .
الشبكات الاقتصادية للحرس الثوري
تدير مؤسسة الحرس الثوري, من خلال مؤسسة "خاتم الأنبياء" وشركات أخرى تابعة لها, إمبراطورية اقتصادية تشمل قطاعات البناء والطاقة والاتصالات والنقل .
هذه الشبكة الاقتصادية, التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات, استفادت بشكل كبير من العقوبات الدولية التي قللت من المنافسة الأجنبية وعززت من احتكارها لقطاعات واسعة من الاقتصاد الإيراني .
أي انفتاح اقتصادي واسع على الغرب سيهدد هذه المصالح المتجذرة, مما يدفع الحرس الثوري إلى معارضة أي تسوية شاملة مع الغرب لا تحمي استثماراته وشبكاته الاقتصادية, هذا يخلق معضلة بنيوية حيث أن المؤسسة الأكثر قدرة على ضمان أمن النظام هي نفسها التي قد تقاوم التغييرات المطلوبة لتحسين العلاقات الخارجية .
الاستقطاب الاجتماعي والسياسي
المجتمع الإيراني يشهد استقطابا متزايدا بين النخب الحاكمة والقطاعات الواسعة من المجتمع, خاصة الشباب والطبقة الوسطى المتعلمة, احتجاجات 2009 (الحركة الخضراء) و2017-2018 و2019 و2022-2023 حركة "المرأة، الحياة، الحرية" تظهر عمق هذا الاستقطاب والمطالبة المتزايدة بالإصلاح السياسي والاجتماعي .
هذا الاستقطاب يعقد من أي محاولة للانفتاح الخارجي, لأن النظام يخشى أن يفسر أي انفتاح كعلامة على الضعف أو كاستجابة للضغوط الداخلية, من جهة أخرى, المعارضة الداخلية قد تنظر إلى أي تحسن في العلاقات الخارجية كوسيلة لتعزيز شرعية النظام دون إصلاحات داخلية حقيقية .
5. إسرائيل: اليمين القومي والمأزق الاستراتيجي
صعود اليمين القومي والديني
الساحة السياسية الإسرائيلية شهدت تحولا جذريا نحو اليمين القومي والديني, خاصة منذ اغتيال رابين عام 1995 وفشل عملية أوسلو, هذا التحول لا يقتصر على النخب السياسية, بل يشمل تغييرات ديموغرافية واجتماعية عميقة, حيث تتزايد نسبة السكان من المستوطنين والمتدينين القوميين و الحريديم .
هذه التركيبة الديموغرافية الجديدة تشكل قاعدة انتخابية قوية لليمين المتطرف, الذي يرفض أي تسوية تتضمن تنازلات إقليمية أو اعترافا بحقوق الفلسطينيين, كما يؤمن هذا التيار بـ "إسرائيل الكبرى" ويرى في أي انفتاح على العالم العربي فرصة لتعزيز الموقف الإسرائيلي وليس تقديم تنازلات .
الرؤية الاستراتيجية لليمين الإسرائيلي
اليمين الإسرائيلي المتطرف لا يكتفي بالرفض السلبي للتسوية, بل يطرح رؤية استراتيجية بديلة تقوم على مفهوم "إدارة الصراع" بدلا من "حل الصراع", هذه الرؤية, كما صاغها المنظر الاستراتيجي الإسرائيلي إيهود يعاري, تهدف إلى الحفاظ على الوضع الراهن مع تحسينات تدريجية في الأمن والاستقرار دون التنازل عن الأراضي المحتلة أو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية .
مبدأ "السلام الاقتصادي"
يروج اليمين الإسرائيلي لمفهوم "السلام الاقتصادي" الذي يعتمد على تحسين الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين دون منحهم حقوقا سياسية أو سيادة على أراضيهم, هذا المفهوم يستند إلى فرضية أن الرفاهية الاقتصادية ستقلل من الدوافع للمقاومة وتخلق مصالح مشتركة تعزز الاستقرار دون الحاجة لتسوية سياسية شاملة .
بنيامين نتنياهو تبنى هذا المفهوم في خطاباته المتكررة حول "تحسين نوعية الحياة" للفلسطينيين, مع التأكيد على أن ذلك لا يعني قيام دولة فلسطينية, هذا النهج يلقى تأييدا واسعا من قطاعات الأعمال الإسرائيلية التي ترى فيه فرصة لتوسيع الأسواق دون التنازل عن الأمن .
استراتيجية "الأسوار الذكية"
على الصعيد الأمني, يتبنى اليمين الإسرائيلي استراتيجية "الأسوار الذكية" التي تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة لإدارة الصراع وليس حله, هذه الاستراتيجية تشمل بناء حواجز إلكترونية ونظم مراقبة متطورة وأنظمة دفاع آلية تهدف إلى الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين مع الحفاظ على السيطرة الأمنية الإسرائيلية .
الجدار الفاصل في الضفة الغربية, ونظام "القبة الحديدية" , والتطوير المستمر لتقنيات المراقبة والاستطلاع, كلها تطبيقات عملية لهذه الاستراتيجية, الهدف هو خلق "سلام بدون سلام", حيث يتم تقليل الاحتكاك والعنف دون الحاجة لتسوية سياسية شاملة .
التطبيع العربي كأداة للتفوق الاستراتيجي
اليمين الإسرائيلي ينظر إلى موجة التطبيع العربي ليس كخطوة نحو السلام الشامل, بل كأداة لتعزيز الموقف الاستراتيجي الإسرائيلي في مواجهة إيران والتحديات الإقليمية, هذه الرؤية تعتبر أن التطبيع مع الدول العربية يقلل من أهمية القضية الفلسطينية ويخلق ضغوطا على الفلسطينيين لقبول ترتيبات أقل من تطلعاتهم التاريخية .
يسرائيل كاتس, عبر عن هذه الرؤية بوضوح عندما قال إن "التطبيع العربي يثبت أن السلام مع إسرائيل ممكن دون حل القضية الفلسطينية", هذا الموقف يعكس اعتقادا بأن الزمن يلعب لصالح إسرائيل, وأن المنطقة تتجه نحو ترتيبات جديدة تهمش القضية الفلسطينية .
التحديات الديموغرافية والاستراتيجية
رغم هذه الرؤية المتفائلة, يواجه اليمين الإسرائيلي تحديات بنيوية متزايدة, التحدي الديموغرافي, حيث تشير التوقعات إلى أن الفلسطينيين سيصبحون أغلبية في المنطقة بين النهر والبحر خلال العقود القادمة, يقوض من استدامة الاستراتيجية الحالية .
كما أن الاستقطاب المتزايد في المجتمع الإسرائيلي بين العلمانيين والمتدينين, والتناقضات بين الديمقراطية والطبيعة اليهودية للدولة, تخلق ضغوطا داخلية قد تؤثر على قدرة إسرائيل على تطبيق استراتيجيتها طويلة المدى .
الموقف من إيران والتحالفات الإقليمية
في مواجهة التهديد الإيراني, يعطي اليمين الإسرائيلي الأولوية للتحالفات الإقليمية والدولية على التسوية مع الفلسطينيين, هذا الموقف يرى أن التحدي الإيراني يتطلب تركيز الموارد والجهود على بناء تحالف إقليمي قوي بدلا من استنزافها في عملية سلام قد لا تحقق نتائج ملموسة .
الضربات الإسرائيلية المتكررة ضد أهداف إيرانية في والعراق ولبنان, و سابقا في سوريا, والتنسيق الأمني مع دول الخليج, والضغط على الولايات المتحدة للحفاظ على عقوبات صارمة على إيران, كلها تعكس هذه الأولوية الاستراتيجية .
6. الولايات المتحدة : تعقيدات النظام السياسي والاستقطاب الحزبي
التحول في الرؤية الاستراتيجية الأميركية
منذ إعلان الرئيس أوباما لـ "المحور نحو آسيا" عام 2011, تشهد الاستراتيجية الأميركية تحولا جذريا من التركيز على الشرق الأوسط إلى المواجهة الاستراتيجية مع الصين, هذا التحول, الذي تعمق في عهدي ترامب و في إدارة بايدن, يعكس إدراكا متزايدا في أوساط صنع القرار الأميركي بأن الصين تمثل التحدي الاستراتيجي الأكبر للهيمنة الأميركية في القرن الواحد والعشرين .
هذا التوجه الجديد يقلل من الاستعداد الأميركي للاستثمار في ترتيبات إقليمية معقدة في الشرق الأوسط, ويدفع نحو "التخفيف من الالتزامات" (Burden Reduction) والاعتماد على الحلفاء الإقليميين لإدارة التحديات المحلية, الانسحاب من أفغانستان والعراق, وتقليل الوجود العسكري في المنطقة, وتفويض دور أكبر لإسرائيل ودول الخليج في مواجهة إيران, كلها تطبيقات عملية لهذه الاستراتيجية .
الاستقطاب الحزبي والسياسة الخارجية
النظام السياسي الأميركي يشهد استقطابا حزبيا متزايدا يؤثر بشكل مباشر على السياسة الخارجية, الحزب الجمهوري, تحت تأثير التيار الترامبي, يتبنى مواقف أكثر تشددا تجاه إيران ويعطي الأولوية للعلاقة مع إسرائيل, بينما يظهر تشككا في التزامات دولية واسعة النطاق, من جهة أخرى, الحزب الديمقراطي منقسم بين الجناح المؤسسي الذي يؤمن بالدبلوماسية متعددة الأطراف, والجناح التقدمي الذي ينتقد الدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل .
هذا الاستقطاب يخلق تحديات في استمرارية السياسة الخارجية, حيث أن أي اتفاق يبرمه رئيس من حزب معين قد يتم إلغاؤه أو تعديله جذريا من قبل خليفته من الحزب المعارض, الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني في عهد ترامب, ومحاولات بايدن للعودة إليه, ثم تجميد هذه المحاولات, تظهر كيف يؤثر الاستقطاب الحزبي على الاستراتيجية طويلة المدى .
تأثير اللوبيات والجماعات الضاغطة
النظام السياسي الأميركي يتيح مساحة واسعة لتأثير الجماعات الضاغطة واللوبيات على صنع القرار في السياسة الخارجية, اللوبي الإسرائيلي, ممثلا بمؤسسات مثل "إيباك" (AIPAC) و"المؤتمر الأميركي اليهودي", يتمتع بنفوذ كبير في الكونغرس والإدارة التنفيذية, هذا النفوذ يحد من قدرة أي إدارة أميركية على الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات جوهرية في عملية السلام .
في المقابل, تفتقر المجموعات العربية والإسلامية الأميركية إلى نفوذ مماثل, رغم نموها العددي والاقتصادي, هذا الخلل في التوازن يعني أن الرؤية الإسرائيلية تجد صدى أقوى في أوساط صنع القرار الأميركي, بينما تواجه المواقف العربية صعوبات أكبر في الوصول إلى دوائر التأثير .
القيود الدستورية والمؤسسية
النظام الدستوري الأميركي, بتوزيعه للسلطات بين الرئيس والكونغرس, يخلق تعقيدات في صنع القرار في السياسة الخارجية, الكونغرس يحتفظ بسلطات واسعة في مجال الموافقة على الاتفاقيات الدولية وتخصيص الميزانيات, مما يعني أن أي اتفاق دولي يتطلب موافقة تشريعية قد يواجه عقبات سياسية معقدة.
الاتفاق النووي الإيراني لم يقدم للكونغرس كمعاهدة دولية تتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ, بل كاتفاق تنفيذي, مما سهل انسحاب ترامب منه لاحقا, هذا يظهر كيف تؤثر الاعتبارات الدستورية والسياسية الداخلية على استقرار الالتزامات الدولية الأميركية .
التحديات الاقتصادية والمالية
الولايات المتحدة تواجه ضغوطا اقتصادية متزايدة, مع تصاعد الدين العام والحاجة لاستثمارات ضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا لمواجهة التحدي الصيني, هذه الضغوط تقلل من الاستعداد الشعبي والسياسي للاستثمار في مشاريع خارجية مكلفة, خاصة في منطقة يُنظر إليها كمصدر للمشاكل أكثر من الحلول.
"متلازمة العراق" (Iraq Syndrome) تُمثل مثالا واضحا على هذا التحول في الموقف الشعبي الأميركي, حيث تُظهر استطلاعات الرأي تزايد الرغبة في التركيز على المشاكل الداخلية وتقليل الالتزامات الخارجية, هذا التوجه يحد من قدرة أي إدارة أميركية على طرح مبادرات إقليمية شاملة تتطلب موارد كبيرة أو التزامات طويلة المدى .
الفصل الخامس : من الضربة إلى الرواية – بين الهندسة الصلبة والهندسة الناعمة
المقدمة التحليلية : إعادة تعريف الاستراتيجية في عالم متغير
الضربة العسكرية, في جوهرها التحليلي المعاصر, لم تعد مجرد فعل تدميري أو انتقامي محدود الأثر, بل باتت تمثل نقطة بداية سردية في منظومة استراتيجية معقدة تتجاوز حدود الفعل المباشر إلى آفاق التأثير طويل المدى, هذا التحول النوعي في مفهوم الضربة العسكرية يعكس تطورا جوهريا في فلسفة القوة الأمريكية, حيث انتقلت الولايات المتحدة من نموذج الهيمنة المباشرة القائم على الردع والإخضاع, إلى نموذج أكثر تعقيدا يدمج بين القوة الصلبة والناعمة في إطار ما يمكن تسميته بـ "الهندسة الاستراتيجية الهجينة" .
إن هذا التحول ليس مجرد تكتيك مؤقت, بل يعبر عن استجابة عميقة للتحديات البنيوية التي تواجه النظام الدولي المعاصر, فالعالم اليوم يشهد تآكلا تدريجيا في فعالية القوة التقليدية, بينما تتزايد أهمية القوة الرمزية والسردية الاستراتيجية في تشكيل الواقع السياسي, هذا التطور يتطلب منا إعادة النظر في المفاهيم التقليدية للصراع والتعاون, والانتقال نحو فهم أكثر دقة لكيفية عمل القوة في عصر المعلومات والشبكات .
السياق التاريخي: من الحرب الباردة إلى الصراع الهجين
الجذور التاريخية للتحول الاستراتيجي
لفهم هذا التحول النوعي في الاستراتيجية الأمريكية, يجب العودة إلى الجذور التاريخية التي شكلت تطور مفهوم القوة في العلاقات الدولية, خلال الحرب الباردة, كانت المواجهة بين القطبين تقوم على منطق التوازن النووي والردع المتبادل, حيث كان الهدف هو منع الحرب المباشرة من خلال رفع تكلفتها إلى مستوى غير محتمل, هذا النموذج, الذي أطلق عليه هنري كيسنجر مصطلح "توازن الرعب", اعتمد على وضوح القواعد والحدود, وعلى قدرة كل طرف على فهم منطق الطرف الآخر .
مع انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة, وجدت الولايات المتحدة نفسها في موقف فريد تاريخيا, القطب الأوحد في نظام دولي متعدد التحديات, هذا الوضع الجديد تطلب تطوير استراتيجيات مختلفة تماما عن تلك التي كانت فعالة خلال المواجهة الثنائية, فبدلا من التعامل مع خصم واضح ومحدد, باتت أمريكا تواجه شبكة معقدة من التحديات متعددة المستويات, من التهديدات اللاحكومية إلى الصراعات الإقليمية, ومن الأزمات الاقتصادية إلى التحديات البيئية والتكنولوجية .
تطور مفهوم القوة الذكية
في هذا السياق, برز مفهوم "القوة الذكية" الذي طوره جوزيف ناي في بداية الألفية الجديدة, هذا المفهوم, الذي يدمج بين القوة الصلبة (العسكرية والاقتصادية) والقوة الناعمة (الثقافية والسياسية), لم يكن مجرد إضافة نظرية, بل انعكاسا لضرورة عملية فرضتها طبيعة التحديات الجديدة, فالصراعات المعاصرة, من أفغانستان إلى العراق, أظهرت حدود القوة العسكرية التقليدية في تحقيق أهداف سياسية مستدامة .
لكن التطبيق العملي لهذا المفهوم واجه تحديات جوهرية, فالقوة الناعمة, بطبيعتها, تتطلب وقتا أطول وجهدا أكبر لتحقيق نتائج ملموسة, كما أنها أقل قابلية للتحكم والتوجيه من القوة الصلبة, هذا ما دفع إلى تطوير مفاهيم أكثر دقة وتعقيدا, مثل "الحرب الهجينة" و "العمليات دون عتبة الحرب", التي تسعى إلى دمج مختلف أشكال القوة في استراتيجية موحدة ومرنة .
الأسس المفاهيمية : نحو فهم جديد للهندسة الاستراتيجية
من الهندسة الصلبة إلى الهندسة الناعمة
التمييز بين الهندسة الصلبة والهندسة الناعمة في السياق الاستراتيجي يتجاوز التصنيف التقليدي للقوة إلى مستوى أعمق من التحليل, الهندسة الصلبة تشير إلى الاستراتيجيات التي تعتمد على أدوات القسر المباشر, العقوبات الاقتصادية, التهديد العسكري, الضربات الاستباقية, وغيرها من الوسائل التي تهدف إلى تغيير سلوك الخصم من خلال رفع تكلفة مقاومة المطالب الأمريكية .
أما الهندسة الناعمة, فهي تعمل على مستوى أعمق وأكثر تعقيدا, إنها تسعى إلى إعادة تشكيل البيئة المفاهيمية التي يتحرك فيها الفاعلون السياسيون, بحيث تصبح الخيارات المطلوبة أمريكيا هي الأكثر منطقية وجاذبية, هذا النوع من الهندسة لا يقوم على الإكراه, بل على الإقناع الهيكلي الذي يعيد تعريف مصالح الأطراف المختلفة بما يتناسب مع الأهداف الاستراتيجية الأمريكية .
السردية كأداة استراتيجية
في قلب الهندسة الناعمة تكمن السردية الاستراتيجية, وهي مفهوم يتجاوز الدعاية التقليدية إلى مستوى أكثر تطورا من التأثير, السردية الاستراتيجية لا تهدف فقط إلى إقناع الجمهور بوجهة نظر معينة, بل إلى إعادة تأطير الواقع نفسه بحيث تصبح التفسيرات المرغوبة أمريكيا هي الأكثر منطقية وقبولا .
هذا المفهوم يستند إلى فهم عميق لكيفية عمل المعنى في العمليات السياسية, فالأحداث السياسية, في جوهرها, لا تحمل معنى ثابتا أو موضوعيا, بل تكتسب معناها من خلال الإطار التفسيري الذي توضع فيه, الضربة العسكرية, مثلا, يمكن أن تفسر كعمل عدواني يهدف إلى الهيمنة, أو كإجراء دفاعي ضروري لحماية الأمن, أو كجزء من "تحول تاريخي" نحو نظام دولي أكثر استقرارا, المعنى النهائي للضربة لا يتحدد بطبيعة الفعل نفسه, بل بقدرة الأطراف المختلفة على فرض تفسيرها للحدث .
المقاربات الفلسفية والفكرية
الفلسفة البنائية والتشكيل الاجتماعي للواقع
تجد هذه المقاربة الاستراتيجية جذورها الفكرية في المدرسة البنائية في نظرية العلاقات الدولية, التي تؤكد على الطبيعة المبنية اجتماعيا للواقع السياسي, بحسب منظرين أمثال ألكسندر وندت ونيكولاس أونوف, فإن هياكل النظام الدولي ليست معطيات طبيعية ثابتة, بل بنى اجتماعية قابلة للتغيير من خلال الممارسة والتفاعل .
هذا الفهم يفتح المجال أمام إمكانيات استراتيجية جديدة تتجاوز الاعتماد على موازين القوى التقليدية, فإذا كانت هياكل النظام الدولي قابلة للتشكيل الاجتماعي, فإن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على إعادة بناء هذه الهياكل بما يخدم المصالح الاستراتيجية, هذا ما تسعى إليه الاستراتيجية الأمريكية المعاصرة, ليس فقط التكيف مع النظام الدولي الموجود, بل إعادة تشكيله وفقا لرؤية أمريكية للمستقبل .
نظرية الهيمنة الثقافية لجرامشي
كما تستفيد هذه المقاربة من نظرية الهيمنة التي طورها أنطونيو جرامشي في سياق تحليل السلطة السياسية, بحسب جرامشي, فإن الهيمنة الحقيقية لا تقوم على القهر المباشر, بل على القدرة على جعل الرؤية الخاصة بالقوة المهيمنة تبدو كـ "حس مشترك" طبيعي ومسلم به, هذا النوع من الهيمنة أكثر فعالية واستدامة من الهيمنة القائمة على القوة المجردة, لأنه يحول المقاومة إلى استثناء بدلا من أن تكون القاعدة .
في السياق الدولي, تعمل الولايات المتحدة على تطبيق هذا المفهوم من خلال ترسيخ فكرة أن النموذج الأمريكي للنظام الدولي ليس مجرد تفضيل أمريكي, بل ضرورة تاريخية تفرضها طبيعة التطور العالمي, هذا ما يفسر التركيز الأمريكي على مفاهيم مثل "نهاية التاريخ" و "النظام الدولي القائم على القواعد" , التي تسعى إلى تقديم الهيمنة الأمريكية كنتيجة طبيعية للتقدم الحضاري .
فلسفة القوة : الانضباط والمراقبة
تستفيد الاستراتيجية الأمريكية أيضا من فلسفة القوة كـ "شبكة علائقية" وليس مجرد أداة قهر, فالقوة الحديثة تعمل من خلال إنتاج المعرفة وتشكيل الذوات, وليس فقط من خلال منع الأفعال أو معاقبتها, هذا الفهم يشير إلى إمكانيات جديدة للتأثير الاستراتيجي تقوم على تشكيل كيفية فهم الفاعلين لمصالحهم وخياراتهم .
في الممارسة العملية, نرى هذا المفهوم في الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع خصومها الإقليميين, فبدلا من السعي لتدميرهم أو إخضاعهم بالكامل, تعمل على إعادة تعريف أدوارهم في النظام الإقليمي بما يتناسب مع المصالح الأمريكية, هذا ما نراه في التعامل مع دول مثل إيران, حيث الهدف ليس القضاء على النظام الإيراني, بل تحويله إلى "فاعل مسؤول" يلعب دورا محددا ومضبوطا في النظام الإقليمي .
التطبيقات العملية : حالات دراسية معاصرة
النموذج الأوكراني : الحرب كأداة لإعادة التنظيم الجيوسياسي
الصراع في أوكرانيا يقدم مثالا واضحا على كيفية تطبيق مبادئ الهندسة الناعمة في سياق الصراع الجيوسياسي, فبينما يبدو الصراع ظاهريا كمواجهة مباشرة بين أوكرانيا وروسيا, إلا أن الأهداف الاستراتيجية الأمريكية تتجاوز حدود هذا الصراع المباشر إلى إعادة تشكيل البنية الأمنية الأوروبية بأكملها .
من خلال دعم أوكرانيا, لم تسع الولايات المتحدة فقط إلى منع التوسع الروسي, بل إلى ترسيخ سردية جديدة حول طبيعة الأمن الأوروبي تضع الحلف الأطلسي في موقع الضمان الوحيد للاستقرار, هذه السردية لم تكن مجرد دعاية, بل استراتيجية طويلة المدى لإعادة تعريف علاقة أوروبا بمحيطها الجيوسياسي, بما في ذلك روسيا نفسها .
النتيجة كانت ليس فقط تقوية الحلف الأطلسي عسكريا, بل أيضا إعادة شرعنته كإطار أساسي للأمن الأوروبي في عصر ما بعد الحرب الباردة, هذا التطور يعكس نجاح الهندسة الناعمة في تحويل أزمة محلية إلى فرصة لإعادة تنظيم البنية الجيوسياسية الإقليمية وفقا للمصالح الاستراتيجية الأمريكية .
التطبيع العربي-الإسرائيلي : إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط
"اتفاقيات أبراهام" تمثل نموذجا آخر على تطبيق مبادئ الهندسة الناعمة في منطقة الشرق الأوسط, فهذه الاتفاقيات لم تكن مجرد تسويات دبلوماسية بين إسرائيل وبعض الدول العربية, بل جزءا من استراتيجية شاملة لإعادة تنظيم النظام الإقليمي في الشرق الأوسط .
الهدف الاستراتيجي الأمريكي لم يكن فقط تحقيق السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب, بل إعادة تعريف طبيعة الصراع في المنطقة, من خلال تشجيع التطبيع, سعت الولايات المتحدة إلى تحويل التركيز من الصراع العربي-الإسرائيلي إلى التحدي الإيراني, مما يعيد تشكيل التحالفات الإقليمية بما يخدم الأهداف الاستراتيجية الأمريكية .
هذا المثال يوضح كيف يمكن للهندسة الناعمة أن تعيد تعريف طبيعة المشاكل والحلول في منطقة معينة, بحيث تصبح الخيارات المفضلة أمريكيا هي الأكثر منطقية للفاعلين الإقليميين, التطبيع لم يكن مجرد نتيجة للتطورات الإقليمية, بل أداة فعالة لإعادة تشكيل هذه التطورات نفسها .
التحديات والانتقادات : وجهات نظر مخالفة
النقد الواقعي : حدود القوة الناعمة
المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية تطرح انتقادات جوهرية لهذا التوجه الاستراتيجي, منظرون أمثال جون ميرشايمر وستيفن والت يؤكدون أن التركيز المفرط على القوة الناعمة قد يؤدي إلى إهمال الأسس المادية للقوة, مما يضعف الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة على المدى الطويل .
هذا النقد يشير إلى تناقض أساسي في الاستراتيجية الأمريكية المعاصرة, فبينما تسعى الولايات المتحدة إلى تقليل اعتمادها على القوة الصلبة, إلا أن فعالية قوتها الناعمة تعتمد في النهاية على مصداقية تهديدها العسكري, هذا التناقض يطرح أسئلة جوهرية حول استدامة هذا النموذج الاستراتيجي, خاصة في مواجهة خصوم يمتلكون قوة مادية كبيرة مثل الصين وروسيا .
علاوة على ذلك, يؤكد النقاد الواقعيون أن الاعتماد على السردية والتأثير الثقافي قد يكون أقل فعالية في مواجهة الدول التي تمتلك رؤى حضارية أو أيديولوجية مختلفة جذريا عن النموذج الغربي, هذا ما نراه في التحدي الصيني, حيث تطرح بكين نموذجا بديلا للتنمية والحكم يتحدى الافتراضات الأساسية للنموذج الأمريكي .
النقد البنائي : مخاطر الإفراط في الهندسة الاجتماعية
من ناحية أخرى, تطرح المدرسة البنائية نفسها انتقادات مهمة لهذا التوجه, لكن من زاوية مختلفة, بعض المنظرين البنائيين يحذرون من مخاطر الإفراط في الهندسة الاجتماعية للنظام الدولي, مؤكدين أن محاولة التحكم في السرديات والمعاني قد تؤدي إلى نتائج عكسية .
هذا النقد يشير إلى أن السرديات والمعاني, رغم قابليتها للتشكيل, إلا أنها تخضع أيضا لـديناميكيات مستقلة قد تفلت من السيطرة, محاولة فرض سردية معينة قد تثير مقاومة ثقافية أو أيديولوجية تؤدي إلى تقوية السرديات المضادة, كما نرى في صعود الحركات الشعبوية والقومية في مختلف أنحاء العالم كرد فعل على العولمة والهيمنة الأمريكية .
النقد من منظور الجنوب العالمي : الهيمنة الثقافية الجديدة
من منظور دول الجنوب العالمي, تبدو هذه الاستراتيجية كشكل جديد من الإمبريالية الثقافية التي تسعى إلى فرض النموذج الغربي تحت غطاء الحداثة والتقدم, هذا النقد, يؤكد أن الهندسة الناعمة ليست أقل هيمنة من الهندسة الصلبة, بل أكثر خطورة لأنها تخفي طبيعتها الهيمنية وراء خطاب التحرر والتقدم .
هذا النقد يطرح أسئلة مهمة حول شرعية ومقبولية هذا النموذج الاستراتيجي على المستوى العالمي, فإذا كانت الهندسة الناعمة تهدف إلى إعادة تعريف مصالح الدول الأخرى وفقا للرؤية الأمريكية, فإن هذا يثير مسائل جوهرية حول السيادة الثقافية والحق في التنوع الحضاري .
تطبيقات معاصرة : الحالة الإيرانية كنموذج
إعادة تعريف الصراع : من العداء الوجودي إلى التنافس الوظيفي
الحالة الإيرانية تقدم مثالا معقدا على تطبيق مبادئ الهندسة الناعمة في سياق إقليمي متوتر, التحول في الخطاب الأمريكي حول إيران خلال العقد الماضي يعكس هذا التوجه الجديد من تأطير العلاقة كـ "صراع وجودي" بين نماذج حضارية متناقضة, إلى تقديمها كـ "تنافس وظيفي" حول الأدوار والمسؤوليات في النظام الإقليمي .
هذا التحول في التأطير ليس مجرد تغيير في الخطاب, بل جزء من استراتيجية شاملة تهدف إلى إعادة تعريف طبيعة المشكلة الإيرانية, بدلا من التركيز على الطبيعة الأيديولوجية للنظام الإيراني أو تهديده الوجودي لإسرائيل, يتم التركيز على سلوكه الإقليمي وقابليته للتعديل من خلال الحوافز والضغوط المناسبة .
هذا التوجه يفتح المجال أمام إمكانيات دبلوماسية جديدة لم تكن متاحة في إطار الصراع الوجودي, فإذا كانت المشكلة هي السلوك وليس الطبيعة, فإن الحل يصبح تعديل السلوك وليس تغيير النظام, هذا ما نراه في النقاشات حول إمكانية "إيران نووية مسؤولة" أو "إدماج إيران في النظام الإقليمي", وهي مفاهيم كانت مستحيلة في إطار الصراع الوجودي .
الأدوات العملية : من العقوبات إلى الحوافز
تطبيق هذا التوجه على الصعيد العملي يتطلب تطوير أدوات جديدة تتجاوز العقوبات والضغوط التقليدية, فبينما تظل العقوبات جزءا من الترسانة الأمريكية, إلا أن التركيز يتحول نحو الحوافز الإيجابية التي تجعل التعاون أكثر جاذبية من المقاومة .
هذا يشمل تطوير برامج التعاون الاقتصادي والتكنولوجي التي تربط المصالح الإيرانية بالمصالح الأمريكية والغربية, كما يشمل الحوار الثقافي والأكاديمي الذي يهدف إلى تعزيز التفاهم المتبادل وتقليل الصور النمطية من الطرفين, الهدف هو خلق شبكة مصالح مشتركة تجعل الصراع أكثر تكلفة من التعاون .
لكن هذا التوجه يواجه تحديات جوهرية, أهمها مقاومة القوى السياسية في كلا البلدين التي تستفيد من استمرار التوتر .
خاتمة : الضربة كإشارة بداية, لا نهاية – ما بين التفكيك وإعادة التكوين
إن ما قد يبدو, في مظهره الأولي, كضربة إسرائيلية تكتيكية تستهدف منشآت نووية محددة داخل إيران, يتجاوز بكثير منطق الحدث العسكري المباشر, ففي سياقات التحولات الكبرى, غالبا ما تكون الضربات محدودة النطاق من الناحية العملياتية, لكنها فائقة التأثير من حيث قدرتها على إعادة ضبط الإيقاع الجيوسياسي العام, إنها ليست نهاية مرحلة, بل لحظة افتتاحية لمشروع أكبر, مشروع يسعى – إن نجح – إلى إعادة تعريف الشرق الأوسط لا وفق حدود سايكس بيكو أو تصورات القرن العشرين, بل وفق إحداثيات جديدة تتقاطع فيها الجغرافيا الرقمية مع سلاسل الإمداد العالمية ومراكز التحكم بالتكنولوجيا والأمن الحيوي.
في هذا الإطار, تكتسب الضربة دلالة رمزية كبرى, لا بوصفها فعلا عسكريا فحسب, بل كبداية "رواية استراتيجية جديدة", تستبدل الخطابات العقائدية القديمة , التي بُنيت حول ثنائيات المقاومة والهيمنة, أو الطائفية والوطنية , بمفاهيم ناعمة ولكن أكثر اختراقا, كالتكامل الاقتصادي, أمن الطاقة, تحالفات التكنولوجيا, والربط اللوجستي.
إنها مرحلة ما بعد الصراع الأيديولوجي, لا بما يعنيه من نهاية الخلافات, بل بما يعنيه من إعادة تصنيفها, وإخضاعها لمنطق الوظيفة والبراغماتية .
وقد يكون من المفيد هنا العودة إلى الفيلسوف الألماني كارل شميت, الذي رأى أن "السياسي يبدأ من تحديد العدو", فهل ما نشهده هو محاولة لإعادة تعريف "العدو", لا باعتباره كيانا وجوديا يجب تدميره, بل باعتباره طرفا يمكن إعادة هندسة سلوكه ضمن منظومة مصالح مرنة؟ وإذا صحّ ذلك, فإن الضربة ليست إعلان قطيعة بل دعوة مفتوحة للتفاوض – بالقوة – على شروط الإدماج ضمن نظام إقليمي جديد .
لكن, وكما حذّر ميشيل فوكو، فإن كل مشروع لإعادة التنظيم يحمل في طيّاته عنفا مضمرا, يمارس لا عبر الإلغاء الصريح, بل من خلال "القولبة الناعمة" للفاعلين داخل بنى القوة الجديدة, فالضربة, بهذا المعنى, لا تهدف فقط إلى ردع إيران, بل إلى تشكيلها من جديد, عبر إجبارها على التفكير في ذاتها كفاعل يجب أن يضبط سلوكه كي يحافظ على بقائه ضمن شروط خارطة ما بعد الردع .
غير أن هذه المساعي الأميركية-الإسرائيلية, رغم ما تبدو عليه من إحكام هندسي, لا يمكن فصلها عن معطيات التاريخ والجغرافيا, فكما يذكّرنا روبرت كابلان, فإن "الجغرافيا هي السرد الذي لا يمكن إسقاطه", وهنا يبرز التحدي الجوهري: هل يمكن فعلا إخضاع منطقة كثيفة بالصراعات المتراكمة, والمخيال السياسي المتجذر, لمعادلات القوة الناعمة والتكامل الشبكي؟ أم أن الهويات الكامنة, و الموروثات السياسية, والذاكرة التاريخية ستنتصر في نهاية المطاف على التصاميم الهندسية المستوردة ؟
إن اللحظة الراهنة, في بعدها الفلسفي, تشبه "اللحظة المشحونة بالإمكانية", حيث يكون الزمن مفتوحا على احتمالات متنافرة , بناء جديد, أو تفكك إضافي, بين القصف والهندسة, بين الردع والدمج, تتشكل هذه الإمكانية, وتُختبر حدودها في ساحات متعددة من مفاوضات فيينا, إلى مياه الخليج, إلى غرف القرار في الرياض وأنقرة وتل أبيب وواشنطن .
وبينما تراهن الولايات المتحدة وإسرائيل على أن الضربة قد تكون الخطوة الأولى نحو ترسيم شرق أوسط إبراهيمي جديد, تظل المخاطر ماثلة في أن يتحول المشروع إلى إعادة تدوير للفوضى, إذا ما فشل في إقناع الفاعلين المحليين بشرعيته وجدواه .
الضربة إذن, ليست جوابا نهائيا, بل سؤال مفتوح على التاريخ, و اختبار لمعادلة قد لا تستقر بسهولة, فإما أن تعيد واشنطن رسم خرائط النفوذ بدقة الجرّاح, أو أن تنفجر في وجهها ديناميكيات لم تُحسب بدقة, فتنتصر الخرائط العميقة – الجغرافيا, التاريخ, الهوية - على الخرائط الذكية المصممة في مراكز القرار الرقمية.
إننا نعيش لحظة ما بين البنية والانفجار, بين التصميم والإرث, بين الهندسة والصدفة, والرهان الحقيقي ليس فقط على ما ستفعله واشنطن وإسرائيل, بل على ما ستفعله المنطقة بنفسها أمام هذا المشروع .
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!