-
الهوية الوطنية السورية .. غرق في مستنقع الإيديولوجيات
منذ ظهور الدولة الحديثة ( الدولة الأمة – nation state ) أحاطت بهذه الدولة في الشرق والغرب تحديات عديدة وكان أبرزها الهوية الوطنية التي صعدت أحيانا وغرقت أحيانا في مستنقع الهويات الفرعية ، وتبرز اليوم في سورية مسألة الهوية الوطنية كأحد أكبر العقبات في وجه وحدة الشعب والجغرافية التي ترزح بين شعور الإنتماءات الفرعية وبين تكلس مصادر الإنتماء الوطني لجهة هوية تجمع كل السوريين على إختلاف ثقافاتهم و معتقداتهم ، وهذا ما يجعل الدولة في سورية ككيان قائم و وحدة سياسية مهددة بالتفتت لصالح مساحات جغرافية دينية وطائفية وعرقية وإثنية تشكل وحدات سياسية رافضة للإنتماء التاريخي والسياسي والجغرافي للدولة المركز .
فيضم الإنسان في داخله مجموعة كبيرة من الإنتماءات يكون الإنتماء الأكبر أو الرئيسي فيه هو الإنتماء الوطني ومن ثم تأتي الإنتماءات الفرعية كالهوية الدينية والسياسية والإجتماعية ....إلخ ، وعندما تنهار الهوية الوطنية الجامعة تظهر الهويات الصغرى كنوع من التعبير عن الذات ولكنها تكون البداية في تعميق الشرخ وتتحول الإنتماءات الفرعية إلى إنتماءات رئيسية يحاول الفرد في بيئته إثبات وجوده وكيانه في ظل ظهور الهويات الأخرى المخالفة له مما يحولها إلى ظاهرة إجتماعية وسياسية ، وهذه الإنتماءات المصغرة توسع الشرخ في المجتمع السوري وتحول الحالة السياسية من المصلحة الوطنية للمصالح الفئوية ، وهي تظهر عندما تغيب العدالة والقانون وتستبعد المواطنة وتهمش الكفاءات الوطنية وتعوم الولاءات وتفرض السلطة إيديولوجيتها على مؤسسات الدولة والأهم هو عندما تغيب الديمقراطية والتمثيل الحقيقي لكل الوحدات الإجتماعية في البرلمان والمؤسسات ، والسلطة تتحمل جزء كبير من المسؤولية فهي التي من المفترض أن تأخذ مسارات وطنية بعيدا عن الإيديولوجيا وتفرض على الأقل على نفسها وجمهورها أبسط قواعد الدولة الوطنية ثم يتبعها الجميع وليس العكس .
فرفع الرايات الدينية على حساب الراية الوطنية تتحمل السلطة جزء منه والمجتمع أو الفرد غير الواعي الجزء الأخر، فكيف للسلطة أن تطلب من الأخرين إنزال راياتهم الدينية والطائفية وهي ترفع الراية نفسها ، فالشارع له سيادة الدولة وعلمها ومن أراد رفع رايته الدينية فليرفعها في بيته أو مقامه أو جامعه أو كنيسته أما الشارع فليس له إلا علم واحد وهو العلم الوطني كأحد مخرجات الهوية الوطنية ، كما أن لا يمكن للسلطة أن تعيب على غيرها الخطاب الطائفي إذا كانت هي تصدر نفس الخطاب وبنفس الوقت أن السلطة التي لا تستطيع السيطرة على جمهورها وضبطه وتوجيهه وفقا للمصلحة الوطنية هي التي ستدفع ثمن أخطائه ، فكل الدول التي مزقت إلى عدة دول وكيانات كيوغسلافيا وتشيكوسلافيا والعراق والسودان كانت نتيجة لسلوك السلطة الحاكمة سياسيا والإيديولوجية التي تسلطت على الثقافات والهويات الفرعية الأخرى ( سورية في عهد الأسد نموذجا أيضا عن التسلط على الثقافات ) ، فهذه الهويات القاتلة كما أسماها أمين معلوف ستكون مفتاح جهنم إذا ما تم تطويعها حول الهوية الوطنية وجعلها دعامات لها بحيث تحمي الهوية الكبرى الصغرى والعكس صحيح ولا تتقدم الصغرى على الكبرى .
وبالعودة إلى الوراء نجد أن البعث الخشبي قد مزق الهوية الوطنية بالإستبداد وضرب حالة التنوع الغني التي لطالما تغنى فيها السوريين منذ الإستقلال بعد أن أختطف الدولة والمجتمع وعمق الخلافات وأثار الفرقة و خاض حربا ضد الشعب السوري وأدخل بها كل المكونات السورية لتقاتل بعضها بعضا في سبيل السلطة والكرسي العائم على بحر من دماء الأبرياء ، فلا يجوز اليوم بأي شكل من الأشكال أيضا أن يقدم أصحاب الإنتماءات الفرعية رؤية إنفصالية بسبب إختلافهم مع السلطة وتحميلها كل المسؤولية دون العودة إلى الجذور التاريخية للمشكلة ، فالوعي للمصلحة الوطنية وتقدير المخاطر والأطماع الخارجية والسياق التاريخي يجب أن يكونوا أساس أي معارضة وليس من المنطق الوطني والأخلاقي أن أمزق وطني لأنني في وضع خلاف مع السلطة ، وتأخر السلطة ببلورة الحياة السياسية ووضع أسسها القانونية والدستورية يفتح الأبواب أمام النزعات الإنفصالية لأن عدم وجود قانون للأحزاب ينظم الممارسة السياسية سيحل محلها ظهور لتيارات تمارس السياسة على أساس طائفي وديني عبر رجال دين يكرسون حالة عدم الإنتماء الوطني ، كما أن عدم تجريم الطائفية والخطاب الطائفي بقانون سيجعل خطاب الكراهية سهلا يخوض فيه العامة وبدلا من أن تلعب النخب دورها في توعية المجتمع ستجدها تنزلق لخطاب العامة عوضا عن محاربته .
ولكن لماذا يتم تحميل السلطة مسؤولية الشرخ الحاصل ! أليس للأخرين دور في هذا الشرخ ؟ نعم يتحمل الأخرين مسؤولية جزئية لكن السلطة التي تدير الدولة هي المسؤول الأساسي لأنها تمتلك الأدوات السياسية والقانونية والإعلامية والإقتصادية والثقافية فلم تديرها في الإتجاه الوطني الصحيح ، فصعود الخطاب الإيديولوجي داخل السلطة لا يتحمل مسؤوليته الأخرين ، فكيف لمؤسسات تعليمية وعسكرية وإعلامية وقضائية أن ترفع شعارات إيديولوجية وهتافات دينية ، وكيف يمكن فهم عدة أحداث حصلت فيها إعتداءات على الحريات الشخصية من قبل أما أفراد يتبعون للسلطة أو أفراد من جمهورها أو إتخاذ قرارات إدارية وتنظيمية نابعة من موقف إيديولوجي لأنهم يرون الخطأ والصح وفقا لمعاييرهم الأخلاقية هم وليس وفقا لمعيار الحرية والقانون ، وبالتالي فسلوك السلطة هو أساس الهوية والدولة الوطنية فالمجتمعات والبيئات مسؤولية الدولة التي تديرها السلطة إصلاحها وتوجيهها وليس وضع اللوم عليها حتى لو كان فيها أشخاص يتبعون مشاريع وأجندات خارجية ، فعلى السلطة أن تسير بشكل صحيح ومستقيم حتى تضع الحجة على من يخالفها .
فيتعين على السلطة إعادة صياغة وتعريف للهوية الوطنية وتقديم الحماية القانونية لها وبذل الجهود لتشمل كل أفراد المجتمع واتخاذ مجموعة من الإجراءات على المستوى البصري والإداري والإجتماعي والسياسي والإعلامي والثقافي والقضائي تعمق الإنتماء الوطني ، فإن هشاشة أي دولة تأتي من هشاشة مجتمعها وتفككه وبدولة مثل سورية خارجة من حرب مدمرة ومجتمع متفكك قائم على العصبيات بنظام حكم سابق قامت سياساته على التفرقة تكون المهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة ، فأساس الهوية الوطنية هو شعور كل فرد من أفراد المجتمع أنه جزء من هذه الدولة ولهذا لم و لن يستطيع أي نظام إيديولوجي العبور بهوية وطنية إلى بر الأمان ، فلطالما أشيع تصور عند الناس في الفترة الماضية أن هذا الحكم يشكل طائفة أو تيار ديني وهذا التصور تسببت فيه السلطة عندما أبعدت الوطنيين من الكفاءات عن المؤسسات والوظائف العامة وأتت بشخصيات مؤدلجة دون مؤهلات حقيقية فمن الطبيعي أن تحكم أي أغلبية سكانية وفق المبادئ الديمقراطية لكن الغير الطبيعي أن يقال أننا نحكم لأننا أغلبية طائفية وليس لأننا أغلبية سياسية ، لذلك تعتبر حالة الإستقرار السياسي في البلاد تحت هوية وطنية هي أكبر النتائج العكسية للطائفية والتمايز الديني والطائفي فالمواطنة الحقيقية والديمقراطية والحرية والعدالة والحقوق وعدم إكتساح الإيديولوجيات للشارع هي أحد مسارات الهوية التي ممكن أن تنشأ على أسس صحية وسليمة وتبني وطنا مزدهر ودولة قوية قادرة على السير للإمام في تنمية البلاد وإستقرارها .
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

