الوضع المظلم
الإثنين ١٥ / ديسمبر / ٢٠٢٥
Logo
  • بين الهجرة والبقاء.. أين يقف مسيحيو سوريا؟

  • "عملت حالي ميت منشان يتركني وما يقتلني"
بين الهجرة والبقاء.. أين يقف مسيحيو سوريا؟
مسيحيّو سوريا

 قد يبدو لك ذلك مشهداً سينمائياً أو حبكة فيلم "أكشن" لكنه حقيقة حدثت في سوريا، فهذا ما فعله الشاب جوليان الناقولا ذو الخمسة عشر عاماً خلال تفجير كنيسة مار الياس بالدويلعة. شكّل التفجير نقطة تحوّل خلال المرحلة الانتقالية، إذ عبّر العديد من المسيحيين عن فقدانهم الشعور بالأمان بعدها، ورغبتهم بالهجرة.


 فالتفجير قيّد حرية ممارستهم لشعائرهم الدينية، وأصبح دخول الكنيسة للصلاة بالنسبة لهم، أمراً يستوجب التفكير ملياً خوفاً من أن يصبح المُصلي ضحية  جديدة في أي وقت.
 ومازالت تحدث أموراً متفرّقة تجعل المسيحيين في توجس، آخرها وجود عبارات تهديد على جدار مدخل مقام مار الياس في معرة صيدنايا تتوعّد بتنفيذ تفجير فيه: "بعد مار الياس الدويلعة.. مار الياس المعرة".
 تقلّص عدد المسيحيين في سوريا خلال السنوات الأربعة عشر الأخيرة، فقبل النزاع، بلغ عددهم حوالي مليوني شخص، ثم انخفض إلى 450 ألفاً، حيث هاجر الكثير منهم إلى أوروبا والولايات المتحدة، وذلك بحسب وكالة الاتحاد الأوروبى للجوء (EUAA).

 واليوم أوصدت أبواب اللجوء ولم الشمل في وجه السوريين، ولم يعد الأمر متاحاً، فكيف يفكر مسيحيو سوريا اليوم؟ وماذا يريدون؟

تفجير الكنيسة.. الجرح الذي لم يندمل
 يروي جوليان اللحظات الأولى لحدوث التفجير، عندما دخل الانتحاري إلى الكنيسة: "كنت واقف بالكنيسة بعدين سمعت صوت الرصاص اجيت بدي روح ما لاقيته غير صار عندي.. قوصني قام تسطحت بالأرض وعملت حالي ميت.. اجا ليتأكد وبعدين تركني وطلع عالكنيسة وبعدين صار التفجير".
 يتحدث الشاب عن شعوره عندها: "ما كنت حاسس أنو رح يصير هيك شي ولا كنت مصدق أنو صار، وفقدت الشعور بالأمان بعد هي اللحظة، كل ما مر من جنب الكنيسة بتذكر يلي صار، وبحس الأمور كلها رايحة
 للأسوأ.. صرت فكر بالهجرة أكيد بسبب الاضطهاد يلي عم يلاحق المسيحيين بسوريا".


 ما زال جوليان حتى اليوم يعاني من أثر إصابته بالتفجير، أُصيب بثلاث طلقات من الجهة اليمنى، واحدة في يده، والثانية في خاصرته، والثالثة في ركبته والتي أحدثت 23 كسراً أو "تفتتاً".


 ويخضع الشاب لجلسات علاج فيزيائي، كما سيُجري عملية ثانية لركبته بعد شهر من الآن، بحسب عائلته.

(صفر) شخص مسيحي يشعر بالأمان!


 في استطلاع رأي أجريناه شمل 50 شخصاً مسيحياً، بلغ عدد من يشعرون بالأمان بوجود السلطة الحالية (صفر) شخصاً، و(أربعة) أشخاص فقط قالوا إنهم "ربما" يشعرون
 بالأمان.
 تصرّح السلطة الحالية دائماً عن وجود إصلاحات قادمة ستشمل البلاد، ومشاريع استثمارية تنهض بالواقع الاقتصادى، إضافة إلى خطابات السلام والعيش المشترك بين جميع المكونات، لكن بحسب الاستطلاع
 34 شخصاً ليس لديهم أمل بتحسّن واقعهم، و 15
 شخصاً لديهم أمل جزئياً بالتحسَن، وشخص واحد فقط
 يملك أملاً.
 أما عن رغبة المسيحيين باللجوء، 31 شخصاً أكدوا
 أنهم سيتخذون هذه الخطوة فور فتح أبواب اللجوء، و8 أشخاص رفضوا الهجرة حتى لو أصبح خيار اللجوء متاحاً، بينما وقع 11 شخصاً في حيرة بين الموافقة والرفض.


يقول جوليان : "لا أرى مستقبلاً في سوريا بسبب انعدام الأمن والأمان وتدهور الوضع المعيشي، بعد التفجير نفرت من السلطة الحالية ولا أريد البقاء هنا، فلا أعتقد أنهم أدوا واجبهم بالدفاع عني وحمايتي، فلم يتواجد عناصر الأمن في المنطقة حمايتها كما يجب".


 وبحسب الاستطلاع، توحّد موقف الناس في إجاباتهم عن الأسباب الرئيسة التي تدفعهم إلى الهجرة حول الخروج بحثاً عن الأمن والأمان، بالإضافة إلى تحسين الوضع المعيشي.
 قال أحدهم: "نستحق أن نمشي في الشارع ونلبس الصليب دون أن نخاف من ألا نعود إلى منازلنا"، في إشارة إلى الخوف وغياب حرية التعبير عن المعتقدات.
 وأشار شخص آخر إلى التضييق على الحريات الشخصية وانعدام حرية اللباس، ووجود قيود على طريقة الاحتفالات، حيث أصبحت البيئة غير ملائمة
 للعيش.
 وعبّر شخص آخر عن موقفه الرافض للسلطة الحالية، مبيناً أنها تتعامل بإقصائية مع مَن يختلف عن توجهها في بلد متعدد المكونات.
 وتابع: "سلطة تريد التحكم بكل التفاصيل دون مشاركة الآخرين في أي منحى يتعلق بما يصب في المصلحة العامة وبمستقبل أفضل يضمن قدرة الجميع على العيش معاً وبناء دولة حقيقية، تُبرر أي تصرف غير عقلاني ناتج عنها أو خاطئ أنه من مخلفات النظام السابق، وهو ما يكون صحيحاً بنسبة 20% من الأحيان فقط، إلا أنها تكتفي بالتبرير دون التراجع أو إيجاد حلول، وفي معظم الأحيان تبرر بأنها تقوم بذلك لحماية الشعب من تكرار ما حدث في الماضي وانعكس سلباً عليهم، إلا أنها تعني بشعبها "المكون" الذي يتفق معها وتصفه في أغلب الأوقات بأنه المتضرر الوحيد، وتشد عصبه "المذهبي" لمناصرتها بكل ما تقوم به، وتنسى أننا نعيش تحت غطاء دولة واحدة تسودها التعددية وواجبها التعامل مع جميع المكونات على أنهم واحد".
 ويوضح أن المشكلة الأساسية تكمن في تطبيق السلطة أجنداتها السياسية على حساب أمن وأمان ما تبقى من مكونات أخرى لا تتفق معها.
 وعبّر عن امتعاضه من استمرار المجازر العشوائية، الخطف، و"الحالات الفردية" ضد المكونات المختلفة عن توجه السلطة، ونكران السلطة التام وعدم تحمل مسؤولية ما يحصل، بالإضافة إلى تغطية الأحداث عبر الإعلام بصورة تعكس أن الواقع ليس كما يتطرق له
 "الآخرون" الذين يريدون "وهن عزيمة الأمة"، وأن
 المستقبل القادم مشرق.

ماذا يريد مسيحيو سوريا اليوم؟
 وجّه أحد الإعلاميين المحسوبين على السلطة رسالة إلى المسيحيين عندما زار دير سيدة صيدنايا، واصفاً إياهم بكلمة "كيوت" لأنهم لم يطالبوا السلطة بشيء.
 واستضافت وسيلة إعلام تتبع للسلطة شخصاً مسيحياً بعد تفجير الكنيسة اتضح من موقفه أنها يلائم توجهات السلطة، والذي استخدم مصطلح "حلف الأقليات"
 معتبراً أن التفجير حدث من قبل جهات معادية للسلطة لرفض المسيحيين الانضمام لهذا "الحلف"، فهل يعكس هؤلاء الأشخاص حقاً رأي المسيحيين السوريين؟
التقينا الأب ماهر منصور كاهن كنيسة القديس جاورجيوس للروم الملكيين الكاثوليك في جديدة عرطوز، والذي أكد أن المسيحيين لا يصنفون كمواطنين مسيحيين بل كمواطنين سوريين.
 يقول الكاهن: "اليوم نريد دولة ديمقراطية مدنية علمانية تحفظ حقوق كل الطوائف والأديان، فالدين هو علاقة الإنسان مع اللّٰه وليس مع السلطة، لا نريد سلطات دينية تحكم البلد، بل ما يهمنا كمسيحيين أن نكون مواطنين يمتلكون كل حقوقهم وامتيازاتهم ويؤدون واجباتهم".
 وعن "المسيحيين" المنتمين إلى السلطة، يشير الأب منصور إلى أنه لم يستشرهم أحد في تعيينهم ولا يمثلون المسيحيين وإن كانوا كذلك، فلم يتم اختيارهم عن طريق الكنيسة أو المسيحيين بل اختارتهم السلطة لأنهم مقرّبون منها وبالتالي هؤلاء الأشخاص غير واضح مدى تمثيلهم للمسيحيين.
 ويضيف: "لا يهمنا أن يكون هنالك مسيحيون في السلطة ليمثلونا بل ما يهمنا أن نعمل كمواطنين على حقوق المواطنة أياً كان المسؤول، سواء كان مسيحياً أو سنياً أو علوياً أو درزياً، وأن يعمل هذا المسؤول من أجل المواطنين بشكل عام".


 ويلفُت الكاهن إلى أن المسيحيين لا يتبعون لأحد، بل يقولون "إن السلطان من الله"، أي السلطة تعطى من اللّٰه ولذلك بحسب الكتاب المقدس يصلون دائماً لأجل الأشخاص الموجودين في السلطة كي يؤازرهم الرب ويكون بجانبهم ويلهمهم لما يجب أن يفعلوه لإصلاح الأمور الاجتماعية.
 يتابع: "كأشخاص مسيحيين نحن عناصر سلام في المجتمع ونريده أن يكون آمناً سليماً ديموقراطياً مؤسساً على حريات وأسس حديثة كباقي الدول، وعندما نكون جزءاً منه يهمنا أن نبني ونعمل من أجل السلام لا التخريب والدمار".
 وعن مطالب عائلة جوليان من السلطة، يقول أخوه الشاب جورج الناقولا: "كان لنا طلب واحد من وزارة التربية، إذ طالبنا مدير تربية دمشق باستثناء كي ينجح جوليان في الصف التاسع لأنه تقدّم إلى امتحان واحد ثم حدث التفجير ولم يستطع إكمال امتحاناته، وتلقينا وعوداً لكن لم يتحقق منها شيئ، وجوليان الآن يُعيد
 صف التاسع".
 ويضيف: "طالبنا الكنيسة أيضاً بعد التفجير أن توصل صوتنا وتعرف مَن يقف وراء التفجير، وبعدها توقفنا عن المطالبة لأن جوليان بدأ ينزعج كثيراً عندما نتحدث بالموضوع فما زال تحت تأثير الصدمة، ومَن قام بالتفجير ونريد محاسبته مات أساساً، لذلك رغبتنا الرئيسة اليوم هي السفر، لأن أخي أينما ذهب يتذكر الأمر ويرى صور الشهداء ومن بينهم أصدقاؤه، لذلك نريد إخراجه من هذه البيئة، وحاولنا تقديم لجوء عبر الكنيسة إلى أستراليا وكان جوليان متفائلاً لكن بعد أسبوع جاء الرفض، وتأثر جوليان سلباً من جديد".

خطاب الكراهية ومفرزاته
 "الملاحظ خلال الشهور الأخيرة أننا أصبحنا نسمع كثيراً بالطوائف والحديث بتمييز طائفي وعنصري"
 حسب تعبير الأب منصور.
 ويطالب الكاهن السلطة أن تتحدث بحقوق المواطنين السوريين بشكل عام دون تخصيص منطقة أو طائفة كي تسير الأمور بطريقة مناسبة مدنية حديثة، لأن الحديث بالطوائف يستجلب التقسيم والعنصرية ويثير النعرات الطائفية والكراهية بين الناس، وهذا شيء غير محبد بهذه الفترة، فما يهم هو تحقيق السلم الأهلي بين الجميع وأن تعمل الدولة دون تمييز بين المناطق وإنما لصالح المواطن السوري أينما وجد، فعندها تبنى الدولة بيد الجميع.
 وفي حديثه عن تفجير الكنيسة، أفاد الأب منصور أن تعامل السلطة كان بطيئاً وضعيفاً، موضحاً أننا نحتاج إلى الأمن الوقائي قبل أن تحصل المشكلة، فعندما يستطيع شخص أن يعبر أكثر من حاجز ومنطقة كي يصل إلى الكنيسة ويفجر نفسه، يكون لدينا غياب للأمن
 والسلطة.
 يتابع: "حتى فيما بعد خلال الاستجابة كان لدينا تحفظ على الألفاظ التي استخدمت لوصف الحالة والمشهد وكذلك على ممثلي السلطة في المكان والذين تعاملوا مع الموضوع بنوع من الاستهتار ما أثار خوفاً لدى لجميع، علماً أن بعض أفراد السلطة كانوا متعاونين".
 وأعرب الكاهن عن رفضه جميع الانتهاكات والتجاوزات بحق أي طائفة أو ديانة، مشيراً إلى أن لجان التحقيق والقضاء أقدر على معالجتها.
 ويردف: "تابعنا الكثير من الانتهاكات والتعديات على الأشخاص والكنائس في الساحل والسويداء".


 يتحدث جوليان عن علاقته بأصدقائه المسلمين بعد التفجير: "رفقاتي المسلمين أجوا وحاكوني واتطمنوا عليي، صار في نفور شوي منهم بسبب يلي صار، وكمان اجوا أشخاص تابعين للسلطة زاروني بالمشفى، وعدوني ينجحوني بالتاسع وقالولي لا تاكل هم بس بالأخير ما عملوا شي، وتكاليف المشفى اتكفل فيها البطريرك".

هل ستُفتح أبواب اللجوء؟
 شرح الكاهن أن موضوع الهجرة ليس بيد الكنيسة في سوريا كي تفتح أو تغلق باب اللجوء، بل بيد الدول التي تستقبل اللاجئين، والكنيسة هنا تترك قرار الهجرة لكل شخص، فهو يحدد ما يناسبه.


 ويضيف: "اللجوء الكنسي يكون عندما تفتح الدول باب الهجرة، وتعطي الأفضلية للمسيحيين، وعندها تقوم الكنيسة في هذه الدول بدور الضامن للأشخاص المهاجرين، ويأخذون منهم مبلغاً من المال ويعيدون صرفه للمهاجر بشكل شهري لمدة سنة ريثما يجد عملاً، وعادةً يطلبون تخصصات معينة للمهاجر مثل
 الطب والهندسة والبرمجة".
 وشدد على أن الكنيسة في سوريا لديها رسالة يجب أن تقوم بها رغم كل المضايقات والمشكلات التي يمكن أن تواجه الجميع.


 
وختم الأب منصور حديثه: "ما نريده اليوم هو المحافظة على الأمن والسلم وأن تحفظ أجهزة الدولة وخاصة الأمنية حقوق المواطنين وأمانهم وسلامتهم كي يعيش الجميع مطمئنين سالمين".

 



ليفانت: مارينا منصور

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!