-
العاصفة العاطفية و لعبة الإمبراطوريات

"التاريخ ليس عبودية للماضي، بل حرية للمستقبل"، كما قال العالم العربي الكبير طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر". ليتردد صدى تلك الكلمات في ساحة الشرق الأوسط، كنداء حزين، يُذكرنا بكيفية قراءة الرسالة المرسومة اللطيفة في غرف سرية قبل القرن، وما تحاول سكب الدماء الفلسطينية العربية اليوم. لـ"يعود التاريخ دائمًا يطالب بحقه"، ليُحاكم المثل العربي القديم في عام 2025م، أعمال سايكس-بيكو، وكأنهُ يُعاود "تأديب" هذا التاريخ من خلال دبلوماسية حديثة تجمع بين الصداقات الشخصية والطموحات الجيوسياسية، كشاهد حي على الظلم الاستعماري، حيث دُمرت في غزة وحدها 200 موقع ثقافي نضالي، لكن الروح الإبداعية تخرج من الركام، وتنظر بأمل يلامس القلوب ويثير الدموع.
يعود تاريخ "التأديب" إلى عام 1916م، عندما اجتمع السير مارك سايكس البريطاني مع فرانسوا جورج بيكو فرنسي في فندق لندن وغرفة مظلمة، يرسمان خطوطاً على خريطة الإمبراطورية العثمانية المريضة دون إدارة أهل المنطقة. وبالأوامر السرية قُسّم الشرق العربي إلى مناطق رائعة - سوريا ولبنان وفلسطين والعراق لفرنسا وبريطانيا - بداية للدول الاصطناعية، ليجلب التقسيم معه أكثر من 109 نزاعات محدودة حتى اليوم، حسب تقرير "المركز الدولي للنزاعات" 2024م.
وقد أعلنها سايكس في مذكراته: "نحن نلعب لعبة الإمبراطوريات، حيث تصبح الشعوب قطعًا على رقعة الشطرنج". هذا التقسيم لم يضبط مخطط جغرافي؛ إنه جرح عميق في الذاكرة الجماعية العربية، وصولاً إلى ديمقراطية "سوريا الكبرى" – ذلك المفهوم التاريخي الذي نادى به الأمير فيصل بن الحسين في مؤتمر دمشق 1919م، مطالبًا بدولة عربية موحدة من الفرات إلى الخليج. واليوم، يقدر عدد السكان في هذه المناطق المقسمة" 150 مليون نسمة، نتيجة لتأثير الصراع الذي أودت بحياة أكثر من 2.5 مليون شخص منذ عام 1918م، وفق "ستوكهولم " الأمم المتحدة.
في عصرنا الحديث، يُعاد إحياء شبح سايكس بيكو من خلال شخصيات كرتونية مثل توماس براك، الملياردير الأمريكي من أصول لبنانية، والذي عُيّن مبعوثًا خاصًا لدونالد ترامب إلى الشرق الأوسط عام 2017م. وكصديق مقرب لترامب – الذي أدار تنصيبه – جاء بعده جزء من شاحنة "الأمريكية الجديدة"، التي تفضل الروابط الشخصية على الخبرة الرسمية. لكن اتخذ براك العاصفة العاطفية؛ في مقابلة مع "فوكس نيوز" عام 2017م، وصف الشرق الأوسط بأنه "بلاد قبائل وعشائر رسم حدودها سايكس بيكو"، مستخدمًا مصطلح "سوريا الكبرى" ليبرر فهمه لديناميكيات جيران. هذا الوصف، والذي يعكس ظهور استشراقية كما اكتسبها إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" عام 1978م، يُذكّرنا بألم التبسيط: المنطقة ليست "قبائل بدائية"، بل حضارة امتدت من العصر الأموي - حيث بلغ عدد سكان الدولة الإسلامية 60 مليون نسمة - إلى العباسي، مروراً بالأندلس، كما وثّق المؤرخ الطبري وابن خلدون ذلك في "المقدمة" عام 1377م: "القبلية العصبية بدأت الدول، لكن الظلم يُفسدها".
مع عودة ترامب إلى روما في 2025م، تجدد الجدل حول دور براك كمستشار مهتم، خاص بعد هجمات 7 أكتوبر 2023م، التي غيّرت مفاجئة بشكل جذري، مشيرًا إلى طموحات العمل في النهاية "الاتفاق الإبراهيمي"، عام 2020 مع 4 دول عربية (الإمارات، البحرين، السودان، المغرب)، مما يكفي للتبادل التجاري حتى 2024 م، حسب تقارير وزارة الخارجية الأمريكية. لكن الحرب في غزة، ألقت بظلالها ودُمرت 80% من الأنسجة العصبية في القطاع، حسب منظمة "الأم المتحدة"، مع مقتل أكثر من 150 مثقفًا فلسطينيًا، كما رصدت منظمة "القلم الأمريكي". في غزة، فوق الذي يعود أصله إلى 4000 عام، أُتلف 200 موقع ثقافي، بما في ذلك المسجد العمري الذي بُني عام 638م (المعبد كنعاني)، ومسجد السيد هاشم (عصر المماليك)، وكنيسة القديس بورفيريوس (407م)، رغم حماية "اليونيسكو" لـ18% من مساحة القطاع كمواقع أثرية. هذا التدمير ليس مجرد حجارة؛ إنه تمزيق للذاكرة الإنسانية، التي تكفي لدموع الحزن والحزن لدى كل عربي يرى فيها تراثًا مشتركًا.
رغم الدمار، ينبض الشرق الأوسط بروح إبداعية تتواصل مع القلوب. في غزة، ولدت أعمال فنية من رحم المأساة كفيلم "صوت هند رجب" التوثيقي في مهرجان 2025م، تجسيدًا الرقم القياسي بـ12 دقيقة تصفيق، وحصوله على الأوسكار، أما فيلم "كان يا ما كان في غزة" للأخوة ناصر، فقد حاز على جائزة أفضل إخراج في كان 2024م، مستذكرًا حياة تحت الانتظار منذ 2007م. ومشروع "من المسافة إلى الصفر" 22 فيلم قصيرًا تحت القصف، عرضت في مهرجان تورونتو وعمّان، ووثّقت حياة 2.3 مليون نازح. موسيقيًا، ودور أحمد أبو عمشة أزيز المسيّرات إلى أوركسترا لأطفال الخيام، بينما أصبحت أغنية "ديرة" لمروان عبد الحميد ظاهرة عالمية في 2024 م، متصدراً قوائم "سبوتيفاي" في 50 دولة، مع 500 مليون استماع. وفوز مصعب أبو توه بجائزة بوليتزر 2025م عن يومه في "نيويوركر"، كأول فلسطيني يُحقق رحلة روائية لـ 1.9 مليون نازح.
هذه الإنجازات ليست أرقامًا؛ إنها دموع الفرح الممزوجة بالألم، تذكّرنا بقول أحمد شوقي: "الأرض العربية واحدة مهما، قسمها الغزاة". ومهما دعم العالم وأميركا الدولة المحتلة بدعم أمريكي لإسرائيل بلغ 3.8 مليار دولار أمريكي (مذكرة 2016م)، مع أشخاص بـ20 مليار دولار منذ 2023م، لكن استطلاع "بيو" 2025م يظهر انعكاس الدعم بين الشباب الأمريكي بنسبة 50% سلبية.
لكن المملكة العربية السعودية، كداعم رئيس للاعتراف بدولة فلسطينية، ساعدت في جمع 145 دولة في الأمم المتحدة 2025م، وأن لا للتطبيع دون حل الدولتين. وقالها براين كتوليس من معهد الشرق الأوسط: "السعودية ترسل رسالة برئاسة: لا تطبيع بدون عدل".
في النهاية، لعبت هذا التاريخ على وترنا كعرب: ليملؤنا الغضب من التقسيم الذي أودى بـ4000 عام من التراث في غزة، رغم أن الفخر بإبداع يخرج من الركام، يذكّرنا بأن "الوردة الجميلة تخفي شوكًا، لكن الشوك يولد الندم الدائم"، كما في الحكمة الزحلية. كما أن الشرق الأوسط ليس رقعة شطرنج؛ بل قلب ينبض بالحرية، ويستحق كتابة مُستقبله بيده. نسأل الله أن يحفظ أمتنا، ويجمعها على قلب رجل واحد.
د. إبراهيم جلال فضلون
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!