الوضع المظلم
الإثنين ١٥ / ديسمبر / ٢٠٢٥
Logo
  • عن توقيف الصحفيين/ات.. حين تُستعاد أدوات القمع سوريا ًويُخذل المعنى

عن توقيف الصحفيين/ات.. حين تُستعاد أدوات القمع سوريا ًويُخذل المعنى
شيار خليل

ما جرى في قضية توقيف إياد شربجي قبل الإفراج عنه لا يمكن فصله عن الخطر الحقيقي الكامن في إعادة استخدام أدوات النظام السابق بعناوين مختلفة وبأيدٍ جديدة لكن بالمنطق ذاته. فالأزمة لم تعد محصورة في نص قانوني أو إجراء بعينه بل في استدعاء منظومة كاملة من القوانين والأجهزة والعقليات التي صُممت أصلًا لقمع الرأي العام وتحييد الصحافة وتحويلها من سلطة رقابية إلى جسم خاضع أو مروّض. الأخطر من ذلك أن هذا الاستدعاء لا يتم فقط عبر ممارسات رسمية بل يجد له غطاءً وتبريرًا من بعض الصحفيين والصحفيات الذين اختاروا الوقوف إلى جانب هذه الأدوات بدل الدفاع عن جوهر مهنتهم وعن الحق العام في التعبير.

قانون الجرائم الإلكترونية الذي استُخدم ضد الصحفيين لم يكن تفصيلًا إجرائيًا ولا خطأ تقنيًا بل أحد أبرز نتاجات الحقبة السابقة حيث كانت الكلمة تُعامل كجريمة والرأي يُصنَّف تهديدًا والصحفي يُنظر إليه باعتباره عنصر إزعاج لا ضرورة مجتمعية. هذا القانون لم يُكتب لحماية المجتمع بل لضبطه ولم يُصغ لمواجهة الجرائم الرقمية الحقيقية بل لتوسيع دائرة التجريم بحيث تشمل كل ما يمكن أن يُقلق السلطة أو يكشف خللها أو يفضح تناقضاتها. إعادة تفعيله اليوم حتى لو انتهت القضية بالإفراج لا تعني سوى أن منطق القمع لم يُكسر بعد بل جرى اختباره ونقله من يد إلى أخرى.

الأخطر في هذا المسار ليس فقط استخدام قوانين النظام السابق بل استخدام القوى التي تشكلت في ظله وتربّت على منطقه وتعمل بعقيدته نفسها. فحين تُستعاد أدوات الضبط القديمة وتُمنح دورًا في إدارة الواقع الجديد فإن النتيجة تكون تلقائيًا تقييدًا للحريات مهما كانت النوايا المعلنة. لا يمكن لمن اعتاد التعامل مع الرأي بوصفه خطرًا أن يتحول فجأة إلى حامٍ لحرية التعبير ولا لمن تشكل وعيه المهني داخل منظومة أمنية أن يدير الفضاء العام بعقلية الحقوق.

قضية إياد شربجي بما فيها التوقيف ثم الإفراج بعد تحولها إلى رأي عام لا تمثل استثناءً مريحًا بل مؤشرًا مقلقًا على هذا الخلل البنيوي لأنها تُظهر أن الحرية لا تزال رهينة الضغط العام لا مبدأ ثابتًا محميًا بذاته. ما جرى يؤكد أن الصحفي ما يزال يُحاسَب على ما يقول لا على ما يزوّر وأن المساحة الممنوحة للتعبير تُدار بمنطق التقدير الأمني لا بمنطق الحق القانوني المستقر. الإفراج هنا لا يلغي الواقعة بل يكرّس سؤالها ويجعلها أكثر إلحاحًا.

الأكثر إيلامًا في هذا المشهد هو موقف بعض الصحفيين والصحفيات الذين اختاروا الاصطفاف إلى جانب هذه الأدوات بحجة الواقعية أو الاستقرار أو حساسية المرحلة. هذا الموقف لا يضر فقط بزميل جرى توقيفه ثم الإفراج عنه بل يضرب أساس المهنة نفسها لأن الصحافة لا تُقاس بالقرب من القوة بل بالمسافة النقدية منها ولا تُبنى بالتماهي مع أي جهة بل بمساءلتها أيا كان شكلها أو تسميتها. حين يبرر صحفي توقيف صحفي آخر لأنه اختلف معه في الرأي أو لأنه اعتبر أن الحرية يجب أن تنتظر فإنه يشارك عمليًا في تقويض السقف الذي يحميه هو نفسه.

الوقوف مع أدوات القمع حتى لو كانت مستعارة أو معاد تدويرها هو أخطر أشكال الانحياز لأنه يمنحها شرعية أخلاقية ومهنية كانت تفتقدها. حين تُستخدم لغة القانون لتبرير القمع وحين تُستدعى مفردات المسؤولية المهنية لتغطية تقييد التعبير فإن الخطر لا يكون على فرد بل على المجال العام كله. فالتاريخ القريب يثبت أن أول من يدفع ثمن هذا التواطؤ هم الصحفيون أنفسهم حين يتقلص الهامش ويضيق السقف ويُعاد تعريف المقبول والممنوع وفق ميزان القوة لا وفق الحق.

حرية الرأي والتعبير ليست شعارًا ظرفيًا ولا امتيازًا قابلًا للتعليق بل جوهر أي مسار سياسي يريد أن يتجاوز إرث الاستبداد. لا يمكن الحديث عن مستقبل مختلف بينما تُستخدم قوانين الماضي وقواه وأدواته في ضبط الحاضر. ولا يمكن القبول بمنطق يقول إن الحريات تُدار بالضرورة أو تُؤجل باسم الاستقرار لأن هذا المنطق ذاته كان الأساس النظري لكل مراحل القمع السابقة.

الدفاع عن إياد شربجي اليوم بعد الإفراج عنه هو دفاع عن فكرة أوسع من شخصه وهي أن الصحافة ليست ملحقًا بأي قوة وليست جزءًا من أدوات الضبط بل مساحة للمساءلة والنقد وكشف الاختلالات. كما أنه دفاع عن حق المجتمع في سماع الأصوات المختلفة لا الصوت الواحد وفي طرح الأسئلة لا الاكتفاء بالرواية الرسمية أيا كان مصدرها. الإفراج لا يُغلق الملف بل يفتح النقاش حول ضرورة حماية الحريات لا اختبارها.

إن أخطر ما يمكن أن يحدث في هذه اللحظة هو تطبيع استخدام أدوات النظام السابق ضد الصحفيين ثم الاكتفاء بالإفراج كحل نهائي لأن هذا التطبيع سيؤسس لمسار طويل من التضييق يصعب كسره لاحقًا. الحرية لا تُحمى بالحياد الزائف ولا بالمجاملة السياسية بل بالموقف الواضح الذي يضع الحق فوق أي اعتبار آخر.

في النهاية ليست القضية قضية أشخاص بل قضية اتجاه. إما أن يكون الاتجاه نحو فضاء مفتوح يحمي الرأي ويصون التعبير ويقطع مع أدوات القمع مهما تغيّرت أسماؤها أو أن نستسلم لمسار يعيد إنتاج الماضي تدريجيًا تحت مسميات جديدة. هذا الخيار لا تتحمل مسؤوليته جهة واحدة بل كل من يملك صوتًا ويقرر كيف ومتى يستخدمه.

ليفانت: شيار خليل

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!