-
الكورد في الإعلان الدستوري السوري بين الاستحقاق وإعادة إنتاج المركزية
بعد أكثر من عقد من الصراعات دامت لأربعة عشر عاماً، تدخل سوريا مرحلة انتقالية من شأنها إعادة بلورة مؤسسات الدولة وصياغتها بالصورة التي تليق بتضحيات كافة المكونات السورية. مع انطلاقة هذه المرحلة بدأت التساؤلات تنهال نحو ملكية حق صياغة مستقبل سوريا الجديد، وبرز السؤال الأهم: ما هو موقع الكورد من عملية الإعلان الدستوري؟.
بينما ومن المفترض أن يأتي الإعلان الدستوري كوسيلة للمواطنة والمساواة والعدالة، إلا أن عدة عوامل مثل التشظي الداخلي والحالة السياسية الحالية الدولية والإقليمية تقود سوريا نحو إعادة إنتاج الإخفاقات القديمة والدفع نحو إقصاء الكورد مجدداً بأدوات جديدة وصيغ مختلفة، ما يعكس استفهاما حول عمق التمثيل في سوريا الجديدة وشرعية المرحلة الانتقالية واختلال ميزان القوى. استبعاد الكورد عن الإعلان الدستوري يعد استمراراً للسياسات الإقصائية ضد المكون الكردي عبر التاريخ.
بين مركزية العروبة وتغييب التعدد
لايزال الاعتراف الدستوري بالشعب الكوردي كثاني قومية أصيلة في سوريا يشكل موضع تحفظ لدى بعض القوى السياسية المشاركة في الإعلان الدستوري المتبنية لفكرة "الجمهورية العربية السورية" ضمن خطاباتها السياسية، التي رُسِّخت بوصفها الإطار الوطني الجامع لمفهوم الانتماء لسوريا لا سيما بعد الاستقلال. هذا المفهوم كان، ولايزال، يحمل بين ثناياه تلك النزعة التهميشية والإقصائية فيما يتعلق بالمكون الكوردي، ما يشكل إحدى أكثر الأمور تعقيداً في قضية الاستبعاد في المرحلة الانتقالية التي كان من المنتظر توسع آفاقها المستقبلية عبر الحوار والنقاش الشامل لفكرة التعددية والاعتراف بها ثقافياً وقومياً، لكن صياغة الإعلان الدستوري بقيت حبيسة تلك الرؤية التقليدية فيما يخص الهوية السورية المشغولة بالعروبة كنواة للانتماء الوطني.
وفي ذات السياق، بدا الاعتراف الدستوري بالحقوق السياسية والثقافية للشعب الكوردي خطراً مباشراً يهدد مركزية الدولة وتماسكها القائم على احتكار الهوية بدلاً من النظر إليه كميزة مضافة ستكرس شرعية الدولة وتعززها. من هنا انبثقت الحساسية الأيديولوجية باتجاه القومية الكوردية أو اللامركزية السياسية أو الفيديرالية أو اللغة الكوردية أثناء الحوارات والنقاشات الدائرة حول الدستور المرحلي في ظل المرحلة الانتقالية.
إن البعد الهوياتي غير مرتبط بالتشريعات والوثائق القانونية فقط، بل بالفكر السياسي السائد الرافض لسوريا التنوع والتعدد. لذلك أية عملية انتقالية في سوريا ستظل ناقصة ما لم يتحول الفكر من إقصائي يعيق مسار تمثيل السوريين والسوريات إلى إطار تشميلي بإطار متوازن عبر الدستور الموضوع.
الدور العربي
يتسم الموقف العربي من الإعلان الدستوري السوري الجديد باليقظة التامة والإصرار على التمسك بعقلية المركزية المقيتة ودعم نهج يضعف فرص الاعتراف بالمكونات غير العربية في سوريا وعلى رأسها الكورد بذريعة الحفاظ على الوحدة السورية، ما يعكس وبصورة مباشرة مخاوف بعض الدول العربية من مطلب أي شكل من أشكال الحكم الذاتي أو أي اعتراف بالوجود الكوردي وامتداده داخل بلدانها. هذا الموقف ليس إلا إعادة إنتاج فكرة المركزية على حساب التعدد، وبالتالي استمرار الإقصاء بهياكل جديدة تحت مسمى "التلاحم الوطني".
الدور الإقليمي والدولي
ليس بالإمكان عزل مسألة استبعاد الكورد عن المشاركة في الإعلان الدستوري عن تداخل الدورين الإقليمي والدولي في القضية السورية حالياً. كما نرى جريان الأمور على الساحة السورية يسري باتجاه تصفية الحسابات على المستوى السياسي بين كافة الأطراف المتدخلة بمنأى عن أي مسار وطني صافٍ لبلورة عقد اجتماعي جديد يليق بمستقبل سوريا الجديد المنتظر.
غياب الكورد عن المشاركة في عملية الحوكمة يعد أبرز مؤشرات التصرفات الإقصائية من قبل سلطات دمشق الحالية التي تبدي صورة للعالم أجمع أنها في طور تحول كبير قائم على اللا تمييز، لكنها متأصلة في سلسلة من العوامل التاريخية والجيوسياسية، رغم خوض الحكومة الانتقالية المستمر في مفاوضات وحوارات علنية مع القوى الكوردية لاسيما فيما يتعلق بالقضية الكوردية وحقوق الشعب الكوردي، ومع قوات سوريا الديمقراطية حول عملية الدمج، إلا أن ثمة ما يمنع استكمال هذه المفاوضات بإطار وطني ألا وهو التدخل التركي بشكل مباشر وكأنها الوصي على جارتها سوريا مهمتها ترتيب أوراقها ضمن إطار ذهنيتها الشوفينية العثمانية.
تعد تركيا اللاعب الإقليمي الأشرس في مسار المشاركة الوطنية السورية لا سيما في تحديد مدى المشاركة الكوردية من عدمها في الإعلان الدستوري والعملية السياسية، حيث هدفها هو بذل الجهود واستخدام نفوذها، باعتبارها الوسيط الأبرز في المفاوضات، لمنع بلورة أي اتفاق كوردي وتمثيله بصورة حقيقية في بناء سوريا الجديدة، ما يثير قلقاً جسيماً ليس فقط عند الكورد، وإنما في المنطقة برمتها. ولاتزال دول عدة عدا تركيا تنتظر تشكيل خطاب وطني جامع تعددي من السلطة الانتقالية بإطار حقيقي وليس فقط خطابات جوفاء عبثية لا طائل منها.
وفي ذات الإطار، تشدد الولايات المتحدة الأميركية على السيادة السورية في ظل المرحلة الانتقالية وكذلك على الوحدة الإقليمية لها، وترفض أي تقسيم عرقي أو طائفي جديد بعد صراع دام أربعة عشر عاماً حسب التصريحات والمواقف التي تبديها منذ هروب نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024 وإلى الآن، حيث تؤكد وباستمرار على دمج قوات سوريا الديمقراطية في إطار الدولة السورية الواحدة الموحدة بعيداً عن تشكيل أي كيان كوردي مستقل يتمتع باللامركزية السياسية أو الإدارية أو أي شكل من أشكال الحكم الذاتي، رغم أنها وبصورة دائمة تدعم قسد في ملف مكافحة الإرهاب لوجستياً وعسكرياً في المناطق التي تسيطر عليها. عملت، ولاتزال، جاهدةً على تقريب وجهات النظر الكوردية والسورية لتعزيز التمثيل الحقيقي بما يضمن نيل الحقوق المشروعة دستورياً وقانونياً.
تؤكد موسكو أن أية ترتيبات سياسية أو دستورية داخل سوريا يجب أن تتم عبر حوار سوري - سوري لاسيما فيما يتعلق بالقضية الكوردية بمنأى عن أي تدخل خارجي. وبالمقابل تحاول موسكو إظهار التمثيل الكوردي بما لا يتعارض مع السيادة السورية ووحدتها ضمن إطار الدولة الواحدة وليس على هيئة مناطق مستقلة بشكل فعلي ممثلة بحكم ذاتي أو لامركزي، مبرزة دعمها الكامل لحماية حقوق الشعب الكوردي وضمان إشراكهم ومشاركتهم الفعلية على المستوى المؤسساتي والدستوري في سوريا الجديدة.
الاتحاد الأوروبي
يردد الاتحاد الأوروبي وباستمرار فكرته في الانتقال الشامل والضمان الحقيقي لحقوق جميع السوريين والسوريات دون تهميش طرف وفقاً للدين أو الطائفة أو العرق. ويدعو إلى اعتماد معايير العدالة، إرساء القانون، وحقوق الإنسان وتطبيقها على كافة المكونات. وهذا ما تؤيده بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا عبر تأكيدها أن الإعلان الدستوري الانتقالي يفترض أن يكون انعكاساً حقيقياً لحقوق الأقليات والمكونات غير العربية وفي مقدمتهم الكورد، مؤكدين أن هذا المحور سيكون محط أنظارهم وتحت مراقبتهم المتواصلة بوصفه أحد المعايير التي سيتم وفقه التعامل مع السلطة الانتقالية في دمشق.
نقاط التوازن
رغم التباين، إلا أن غالبية المواقف الدولية تحقق حالة من التوازن بين عدم التقسيم وبين ممارسة الضغوط لضمان التمثيل الحقيقي للكورد كونهم باتوا الرقم الأصعب في المعادلة السورية ويشكلون الطرف الأقوى عسكرياً وسياسياً على الأرض، ويتم التركيز على هذه الحالة بسبب خوف أنقرة الدائم والأطراف التي ترى في أية مطالبة بحكم ذاتي خطراً يهدد سلامة سوريا، أو مخاوف حقيقية من امتداد هذا التهديد إلى الداخل التركي وهذا ما تجبر تركيا فعلياً على إفشال أية محاولات جدية بين الكورد ودمشق عبر اللقاءات المستمرة بينها وبين السلطة الانتقالية وممارسة الضغوط عليها لإفشال أي مطلب كوردي من خلال تقديم الدعم اللازم لها بحجة بناء سوريا واحدة موحدة.
الخطابات لا تمثل الواقع إطلاقاً لأنها ذات تناقض فعلي وعملي، فربما لا تترجَم جميعها أحياناً إلى مشاركة فعلية وحقيقية على الأرض في الإعلان الدستوري، أو إلى حقوق مصونة دستورياً بإجماع الأطراف السورية والدولية.
في نهاية المطاف، إن استبعاد الكورد من الإعلان الدستوري السوري هو تجسيد حي للنهج التمييزي أو السياسة الإلغائية التي تشكل خطراً حقيقياً على المواطنة والعدالة في سوريا، ولا يعد هذا الاستبعاد بمثابة غياب عن ورقة سياسية سورية فقط، فالأمر متعلق بالمستقبل العام لسوريا وبمدى تجاوزها لفكرة المركزية إلى نموذج يعزز التنوع والمواطنة الحقيقية (ليس بالاسم فقط) والمساواة بين السوريين والسوريات. ستبقى العملية السياسية مرهونة بإدراك التعدد كقوة، ومن دونه ستدور هذه العملية في دائرة الأزمات والصراعات وستعجز عن تشكيل أي عقد اجتماعي جامع وشامل. لذا فإن إدماج الكورد في صياغة الدستور الجديد للبلاد يعد ضمانة حقيقية لاستقرارها وبقائها، وإن إشراك الجميع والاعتراف بالحقوق الثقافية والقومية وكذلك السياسية لاسيما للمكونات غير العربية هو السبيل الأمثل نحو العدالة والمواطنة والسلام ورسم الملامح الجديدة الجامعة بعد أعوام من الأزمات والانقسامات المريرة.
ليفانت: زينه عبدي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

