-
اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب... بين المثقف العضوي وإعادة تدوير النخب

في ظاهر الأمر، يبدو المرسوم رقم (66) الصادر عن رئيس المرحلة الانتقالية "أحمد الشرع"، والمتعلّق بتشكيل "اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب"، خطوة تنظيمية في سياق الانتقال السياسي، وقد يُنظر إليه كبادرة إيجابية نحو بناء مؤسسات جديدة. إلا أن تفاصيل التشكيل وآليات العمل المقترحة تثير تساؤلات مشروعة حول مدى جدية هذا التحول، وما إذا كان يفتح المجال لتغيير حقيقي، أم أنه يُعيد ترتيب المشهد بما يُبقي على جوهر البنية السياسية دون تعديل جوهري.
تتكوّن اللجنة من 11 عضوًا، ينتمي عدد كبير منهم إلى "الائتلاف الوطني" السابق، وهو كيان سياسي لعب دورًا بارزًا في مرحلة سابقة، لكنه واجه تحديات كبيرة في تمثيل المزاج الشعبي خلال السنوات الماضية. أما المجلس المزمع انتخابه، فيتألف من 150 مقعدًا، يُعيَّن ثلثها بقرار رئاسي، فيما يُنتخب الثلثان الآخران عبر آليات لم تُوضّح تفاصيلها بعد، وتستند إلى ما يسمى بـ"الأعيان والمثقفين"، دون تحديد دقيق لمعايير هذا التصنيف.
هذه البنية تفتح الباب على جملة من الإشكالات الجوهرية:
أولًا: إعادة تدوير النخب
يشكّل أعضاء سابقون في "الائتلاف الوطني" غالبية تشكيل اللجنة. قد يرى البعض في ذلك استمرارًا للخبرات السابقة، لكنه في الوقت ذاته يُطرح كإشكالية إذا لم تترافق مع مراجعات نقدية لأداء هذه النخب. فعودة شخصيات من المعارضة التقليدية إلى موقع السلطة الانتقالية هذه المرة، تثير تساؤلات حول مدى قدرتهم على تجاوز إخفاقات سابقة، والوفاء بتطلعات السوريين الذين طالبوا بتغيير عميق.
في هذا السياق، تحضر نظرية "دوران النخب" لعالم الاجتماع فيلفريدو باريتو، التي تقول إن النخب لا تزول، بل تعيد تموضعها ضمن مؤسسات كل سلطة مستجدة.
ثانيًا: تعددية ظاهرية... التنوع الشكلي لا يكفي
تعكس التشكيلة، ظاهريًا، قدرًا من التنوع؛ إذ تضم ممثلين عن النساء والأقليات القومية والدينية (كردي، تركماني، مسيحي)، وهو أمر يُحسب لها من حيث الشكل. لكن، ووفقًا لتحليل ليفينسكي وواي في دراستهما عن "الأنظمة الهجينة"، فإن التعددية الشكلية قد تتحول إلى أداة تجميلية تستخدمها السلطة لتقديم واجهة ديمقراطية أمام المجتمع الدولي دون مضمون حقيقي.
هذا القلق يتعزّز في ظل الغياب الواضح لممثلي محافظات مركزية مثل السويداء، ما يبدو كنوع من العقوبة أو الإقصاء، خصوصًا أنها برزت في السنوات الأخيرة كمركز للحراك المدني، وتحمّلت تداعيات النزاع بين المركز والفصائل المحلية. وينسحب التهميش كذلك على محافظة اللاذقية، التي لا تزال تشهد موجات من العنف الطائفي، وتُواجه تهميشًا مزدوجًا رغم موقعها التاريخي في البنية السياسية.
ثالثًا: معضلة "الأعيان والمثقفين"... من هم هؤلاء في الشأن السوري؟
المصطلحات المستخدمة لتوصيف آليات التمثيل تفتقر إلى الوضوح. من هو "المثقف" السوري فعلًا؟ هل هو الكاتب الحر، أم الإعلامي المقرّب من دوائر القرار؟ ومن هو "العين"؟ هل هو شيخ عشيرة؟ وجيه محلي؟ فاعل اقتصادي؟ أم هو "المثقف العضوي" كما صاغه غرامشي، المرتبط بقضايا الناس ومصالحهم المباشرة؟
غياب تعريف واضح لهذه المفاهيم يفتح الباب أمام استخدامها بمرونة مقلقة، قد تؤدي إلى إقصاء غير مباشر. وبهذا، تتحوّل معايير الاختيار إلى أدوات انتقائية أكثر منها شفافة، وتكمن الخطورة في احتكار رمزية التمثيل من قبل دوائر ضيقة، تحت مسمّيات واسعة وفضفاضة.
رابعًا: هندسة انتخابية تُفرغ الانتقال من مضمونه
الآلية المقترحة لإنتاج المجلس تعاني من فجوات واضحة في الشفافية والمساءلة:
الهيئات الناخبة تُشكّل بشكل غير مباشر، ما يُضعف مبدأ "الشعب مصدر الشرعية".
ثلث أعضاء المجلس يُعيَّنون بقرار رئاسي، ما يُضعف استقلاليته.
لا يوجد جدول زمني واضح للانتخابات أو لعمل اللجنة، ما يترك الباب مفتوحًا لتأبيد مؤسسات مؤقتة.
خامسًا: غياب الصلاحيات الرقابية = ديكور دستوري
أما "مجلس الشعب" نفسه – وهو الاسم الذي كان من الأجدر تغييره لكسر العلاقة العضوية مع مرحلة البعث – فلا يبدو أنه سيحظى بصلاحيات حقيقية نابعة من "الشعب". فبحسب الإعلان الدستوري، يمتلك المجلس صلاحيات شكلية كاقتراح القوانين وإقرار الموازنة، دون أدوات رقابية فعلية على الرئيس أو الحكومة.
ينطبق عليه بذلك توصيف الاقتصادي دوجلاس نورث لـ"المؤسسات الزائفة"، التي تُبنى في الظاهر لخدمة المصلحة العامة، لكنها عمليًا تُكرّس امتيازات النخب وتعطّل أدوات المحاسبة.
حتى لو اكتمل تشكيل المجلس وبدأ العمل، فإنه يظل بلا أدوات رقابية أو مساءلة حقيقية. فلا سلطة له على الرئيس أو الحكومة، ما يجعل وجوده أقرب إلى "الديكور الدستوري" – داخليًا لإظهار التعددية، وخارجيًا لتوفير غطاء مؤسساتي محتمل لأي تفاهمات دولية مستقبلية حول "مأسسة الحكم الانتقالي".
وأخيرًا...
جلّ ما نخشاه هو أن نصل إلى "مجلس الشعب" دون شعب، وبأعيان وعدد من "المثقفين العضويين" – حسب ما أسماهم عمّنا غرامشي – دون أن يملك هذا المجلس القدرة أو الرغبة في إحداث التغيير الذي يليق بتضحيات السوريين.
ليفانت: الدكتورة غنى الشومري
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!