-
مناف طلاس... حين يكون الموقف أبلغ من الصورة

بقلم السياسي والكاتب : أحمد منصور.
مناف طلاس لم يطلب شهادة براءة من أحد، ولم يسعَ لتلميع صورته. فالرجل الذي غادر السلطة طوعاً يوم كان القرب منها مكسباً، لا يحتاج إلى تبرير أمام من لا يعرفون معنى الانشقاق الأخلاقي. موقفه المعلن، ومشروعه الوطني، وموقفه الثابت من رفض التبعية والفساد، كفيلة بأن تُعرّف من هو.
في عالمٍ تحكمه الصورة وتُختزل فيه الحقائق في لحظاتٍ عابرة، خرجت إلى العلن مؤخراً مجموعة صورٍ قديمة تجمع رئيس النظام السوري بشار الأسد البائد وعدداً ممن كان مقرب منه وآخرون ممن لا يزالون، و من بينهم العميد الركن المهندس المنشق مناف طلاس، في رحلةٍ تعود إلى مرحلة مضت أكثر من 28 سنة وذلك قبل اندلاع الثورة السورية. وكما هي العادة في فضاءٍ مشبعٍ بالتوتر والانقسام، تحوّلت تلك الصور إلى مادةٍ للتجريح والتأويل والتشكيك في النوايا، متجاهلين أن الموقف لا يُقاس بما التُقط قبل أكثر من عقدين، بل بما صاغه صاحبه من فعلٍ حين جاءت لحظة الاختبار.
لقد كان مناف طلاس جزءاً من منظومةٍ نشأ داخلها، يعرف تفاصيلها ويدرك مكامن قوتها وضعفها، لكنه كان أيضاً من أوائل من أدرك أن تلك المنظومة بلغت مرحلةً من التآكل الأخلاقي والسياسي جعلت بقاءها عبئاً على الدولة والمجتمع معاً. وعندما انفجرت شرارة الثورة السورية، لم يتردد الرجل في اتخاذ موقفٍ واضح لا لبس فيه: الانحياز إلى المجتمع، لا إلى السلطة؛ إلى الإنسان السوري، لا إلى بنية الحكم التي فقدت بوصلتها بشكلٍ مطلق.
إنّ الانشقاق الذي أعلنه طلاس لم يكن مجرد خطوةٍ عسكرية، بل كان موقفاً أخلاقياً وسياسياً يعبّر عن رفضٍ واعٍ لمنظومةٍ أقامت سلطتها على الخوف والمحسوبيات والفساد. لم يساوم، ولم يلتفّ على موقفه، ولم يبحث عن موطئ قدمٍ في معارضةٍ غارقةٍ في التجاذبات والارتهانات الخارجية. بل اختار طريقاً أكثر وعورة: طريق العمل الصامت من أجل صياغة رؤية وطنية متماسكة لسوريا ما بعد الحرب، دولةٍ تقوم على العدالة والمواطنة وسيادة القانون.
لقد اختار طلاس أن يكون حيث يجب أن يكون: على مسافة واحدة من المجتمع المظلوم والمطالب المُحقة والمُصانة، قريباً من الناس، بعيداً عن الأجندات الضيقة. وحين فسد المشهد السياسي المعارض وتحوّل إلى ساحة مزايدات وولاءات متناقضة، انصرف الرجل إلى العمل الجادّ في سبيل صياغة رؤية وطنية تنقذ ما تبقى من التطلع السوري. ومعه مجموعة من الضباط والسياسيين والمفكرين والإعلاميين والناشطين، وأكررها وضع ملامح مشروعٍ يهدف إلى وقف نزيف الدم السوري و بناء سوريا جديدة خارجة عن قبضة الأسد وطغمته البائدة والمعارضة وأجنداتها الضيقة.
وبينما غرق كثيرون في متاهة الشعارات والمناصب، ظلّ طلاس ثابتاً في موقعه المبدئي، يؤمن بأن التغيير لا يصنعه الخارج، ولا يُفرض من فوق الطاولات السياسية، بل يُبنى على وعيٍ جمعيٍ يملك شجاعة تجاوز الأحقاد وتحمّل مسؤولية المستقبل. من هنا، لا يمكن فهم مسيرته إلا في سياقها الأشمل: مسيرة رجلٍ انحاز إلى قيمٍ لا إلى مواقع، وإلى مشروع وطنٍ لا إلى سلطةٍ بديلة.
إنّ المحاكمة الأخلاقية لأشخاص بناءً على صورٍ التُقطت قبل الثورة بسنوات طويلة هي سذاجة سياسية وفكرية ونكران للتاريخ. فالقيمة الحقيقية لأي إنسان تُقاس بموقفه حين تتقاطع المبادئ بالمصالح، لا بما كان عليه في زمنٍ لم يكن فيه خيار. لقد أثبتت التجربة السورية أن قلةً فقط امتلكت شجاعة الانشقاق الأخلاقي والفكري عن نظامٍ قائم على الخوف، وكان مناف طلاس أحد هؤلاء القلائل الذين قدّموا موقفهم على مصلحتهم.
واليوم، وبين ركام الخراب وتشتّت السرديات، يصبح الإنصاف واجباً وطنياً وأخلاقياً. فالرجل الذي رفض أن يكون جزءاً من آلة القمع، ورفض أيضاً أن يتحوّل إلى أداةٍ في يد معارضةٍ ممزقة، يستحق أن يُنظر إليه بميزان الموقف لا بسطحية الصورة.
ففي النهاية، لا تُقاس الرجال بما كانوا عليه، بل بما اختاروا أن يكونوا عندما صار الصمت خيانة.
مناف طلاس اختار أن يكون مع وطنٍ يبحث عن خلاصه، لا مع سلطةٍ فقدت شرعيتها ولا مع معارضةٍ فقدت بوصلتها. اختار أن يقف على ضفة المبدأ، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الضمير.
وهنا فقط، يصبح الموقف أبلغ من الصورة، والذاكرة أنقى من التشويه، والتاريخ أكثر إنصافاً مما يظنه من يقرأه على عجل.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!