-
العصيان المدني وآليات الضبط السلطوي

يمثل العصيان المدني تحدياً جوهرياً للسلطة، فهو يكشف هشاشة الأسس التي تقوم عليها الهيمنة السياسية والاجتماعية. لكن السلطة، كما يبين لنا كل من ميشيل فوكو وأنطونيو غرامشي، لا تكتفي بالقمع المباشر، بل تعمل علی تطور آليات معقدة لاحتواء المقاومة وإعادة إنتاج الطاعة.
يرى فوكو أن السلطة الحديثة لا تعمل فقط من خلال المنع والقمع، بل یلجأ الی الإنتاج والتشكيل ایضا. بمعنی ادق، السلطة الانضباطية تخترق أجساد الأفراد وتشكل ذواتهم، مما يجعل المقاومة أكثر تعقيداً. وتعتمد في عملیة الخرق هذە علی الیات محددة وهي تحويل المجتمع إلى سجن مفتوح حيث يراقب الأفراد أنفسهم تحسباً لوجود رقيب محتمل، مما يخلق انضباطاً ذاتياً يجعل العصيان أكثر صعوبة. هذا مع إنتاج معايير “الطبيعي” و”الشاذ” التي تجعل العصيان يبدو كسلوك مرضي أو منحرف يحتاج إلى علاج أو تقويم. اضافة الی الیة ما تسمی ب (الحكمية) حیث السلطة لا تقول “لا” بل تقول “كيف تعيش بشكل أفضل”، مما يحول المقاومة إلى مطالب بالإصلاح بدلاً من التغيير الجذري.
ویأتي غرامشي ليطور مفهوم “الهيمنة” ليشمل الهيمنة الثقافية والأيديولوجية، وليس فقط الاقتصادية والسياسية. فالطبقة المهيمنة تحافظ على سلطتها من خلال جعل رؤيتها للعالم تبدو كـ”الحس المشترك”.
وان استراتيجيات الهيمنة الغرامشية تعتمد ایضا علی مجموعة من ألیات وهي عبارة عن تكوين طبقة من المثقفين الذين ينشرون أيديولوجية الطبقة المهيمنة ويجعلونها تبدو منطقية وعادلة. واللجوء الی الحرب الموضعية بدلاً من المواجهة المباشرة، حیث تعمل السلطة على احتواء المقاومة من خلال التنازلات الجزئية والإصلاحات الشكلية. هذا اضافة الی استخدام المؤسسات المدنية (الإعلام، التعليم، الدين) لنشر القيم المهيمنة وتأطير النقاش العام.
ومن خلال فهمنا وإدراكنا لرؤية فوكو لماهية السلطة واستراتيجيات الهيمنة الغرامشية، يمكننا معرفة آليات التي تعتمدها السلطة المعاصرة في كبح العصيان والتي يمكن تحديدها كالاتي:
1. التشويه الإعلامي والتأطير: تقوم السلطة بتأطير العصيان المدني كـ”فوضى” أو “تخريب” أو “تآمر خارجي”، مما يعزل المحتجين عن الرأي العام.
2. الاحتواء المؤسسي: توجيه الطاقة الاحتجاجية نحو القنوات المؤسسية (الانتخابات، اللجان، الحوار المجتمعي) التي تستنزف الحماس دون تحقيق تغيير حقيقي.
3. التجزئة والتشرذم: تقسيم الحركة الاحتجاجية إلى فئات متنافسة (شباب/كبار، معتدلون/متطرفون، مطالب اقتصادية/سياسية) لمنع تشكيل جبهة موحدة.
4. العنف المدروس والرحمة المحسوبة: استخدام القمع بشكل متدرج ومحسوب، مع تقديم تنازلات رمزية لتهدئة الغضب دون المساس بجوهر النظام.
إن فهم آليات الضبط هذه لا يهدف إلى تثبيط المقاومة، بل إلى تطوير استراتيجيات أكثر فعالية للتغيير. لذا تتطلب من المقاومة الحقيقية الوعي بآليات السلطة، أي فهم كيف تعمل السلطة في تطوير مقاومة أكثر ذكاءً. هذا مع بناء هيمنة مضادة وذلک من خلال تطوير رؤية بديلة للعالم وثقافة مقاومة. اضافة الی الاعتماد علی التنظيم الأفقي وتجنب الهياكل الهرمية التي يسهل اختراقها أو كسرها. کذلک المثابرة الاستراتيجية والعمل على المدى الطويل مع فهم أن التغيير الحقيقي يحتاج وقتاً.
اذن یمکننا القول بان العصيان المدني ليس مجرد رفض للقوانين، بل هو تحدٍ لمنطق السلطة ذاته. ولكن السلطة، كما يبين فوكو وغرامشي، تملك أدوات معقدة لإعادة إنتاج نفسها. فهم هذه الآليات ضروري لكل من يسعى للتغيير الحقيقي، فالمقاومة الفعالة تبدأ بفهم طبيعة ما نقاوم.
ليفانت: نوري بیخالي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!