-
القبيلة والغنيمة والتطرف.. سوريا الجديدة

حاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة تصيد ضيفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من خلال الإشارة الى زهد أردوغان بالنصر الذي حققه في سوريا عبر التخلص من نظام الأسد الهارب ولم يتوانى ترامب عن تذكيره الفج ولكن الحقيقي بوجود وكلائه كحكام لسوريا الجديدة ويدعوه بطريقة مباشرة للتفاخر بهذا العمل فيما يبدو الرئيس التركي محرجا ( ولو أمام الكاميرا) من كلام زعيم الدولة العظمى.
في الواقع إن هذا المشهد لا يمر مرور الكرام أمام المدقق في السياسة التركية في سوريا التي تتعاطى مع الوضع السوري تعاطي المنتصر مع الغنيمة وهذا يفتح باب ثيمة هذا المقال الأساسية والأمر هنا لا يتعلق بالحديث عن السياسة الأمريكية المجهزة عسكريا وعلميا لرسم جغرافيات سياسية جديدة في العالم ولا عن السياسة التركية التي تلعب على خيط رفيع هو معين حزبها الإسلامي الحاكم أي العدالة والتنمية وإرثها العلماني المكرس في بديات القرن العشرين وإنما الحديث سيدور حول وكلائها من السوريين الذين نفذوا الخطة المرسومة بدقة ولكن بأي طريقة يسعى هؤلاء لتثبيت أركان حكمهم في سوريا.
في كتابه الشهير ( العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته) يتحدث الدكتور محمد عابد الجابري مستدلا بشواهد عديدة وتحليل مرموق عن الثلاثية التي شكلت ذلك العقل وهي القبيلة والغنيمة والعقيدة ويخلص الجابري إلى أن مهمة الفكر العربي إنما تكمن في تحويل القبيلة الى مجتمع "وشتان بين المفهومين طبعا" وفي تحويل الغنيمة الى اقتصاد منظم قائم على الاقتصاد الانتاجي بدل الريعي واستبدال العقيدة المغلقة بالشرعية الدستورية .
أما لماذا يحضرني الجابري وكيف يمكن عطف ذلك على الحالة السورية فهذا ما سأحاول الإضاءة عليه في هذا المقال , فمنذ وصول فريق هيئة تحرير الشام في الثامن من ديسمبر 2024 إلى السلطة في دمشق بعد أكثر من نصف قرن من حكم الأسدين الأب والابن في سوريا يتم النظر الى هذه ال( سوريا) بمنطق القبيلة والغنيمة والدين لا بمنظار الدولة الحديثة والاقتصاد الحديث واحترام التعددية الدينية الموجودة في هذا البلد في معاكسة مأساوية لكلام المفكر المغربي الكبير.
ولا يعدم المبصر في الوضع السوري سوق أدلة وشواهد عديدة عن تعاطي السلطة الانتفالية مع سوريا والسوريين بذاك المنطق ومنها مثلا منطق الغلبة الذي كرسه الحكام الجدد تحت شعار
" من يحرر يقرر" وهو منطق قبلي قوبل به الشعب السوري ككتلة واحدة صماء دون الأخذ بعين الاعتبار تنوع هذا الشعب الديني والطائفي والقومي ( هذا إذا افترضنا أنهم حرروا طبعا) وهو افتراض ساذج لا يصدقه إلا البلهاء , وأسس هذا الشعار طبعا في الأيام الأولى لهروب الأسد بالإتيان بفريق حكومة إدلب المكون من أعضاء هيئة تحرير الشام لتسلم مقاليد الوزارات من محمد الجلالي آخر رؤساء الوزراء في عهد الأسد بحجة " خبرتهم" في إدارة إدلب ظنا منهم أن حكم إدلب يشبه حكم سوريا وترافق ذلك مع ظهور مناصري " الغالبين" من المقاتلين الأجانب بل وترفيعهم وإعطائهم رتبا في " الجيش" المزمع تشكيله بعد قرارات حل الجيش السوري وقوى الأمن الداخلي دون تمييز بين المؤسسة ومن يدير المؤسسة من عناصر وضباط النظام السابق حتى في المديريات المدنية المتعلقة بالهجرة والجوازات ودوائر المرور.
وكعادة العرب القبلية بالانتساب لم يتوان والد الرئيس الانتقالي لإضفاء لمسة الشرعية على زعيم القبيلة من حيث النسب فكان أن صرح بأنهم ينحدرون من نسل الأشراف الهاشميين وبالتالي فإن منطق شرعية القبيلة والذي يحتاج الى أرضية لها علاقة بالنسب قد توفر لدى الأب الذي عاد له ابنه الضال في العراق والمطلوب على لوائح الإرهاب الدولي والأممي على هيئة رئيس فخطاياه وعقوقه "مغتفران" .
والغالب لا بد أن يثبت لجمهوره أنه كذلك عبر ضحايا يشيطنهم مرة بحجة الفلول وبذلك يبدو قتل آلاف العلويين في الساحل متسقا مع منطق الغلبة من جهة ومع المنهج الجهادي السلفي الذي تربى عليه الجولاني على يد " جهابذة التنظير السلفي" من ابن تيمية و المودودي الى المحيسني إلى أبي عبدالله المهاجر إلى أبي مصعب السوري وغيرهم ولم يضيع " الشرع الجديد" الوقت للانتقال الى الدروز في صحنايا وجرمانا ومن ثم الغزوة الكبرى في السويداء بحجج جديدة واهية تارة بعدم تسليم السلاح وتارة بالعمالة لإسرائيل وثالثة لفض الاشتباك مع بدو المحافظة وكل ذلك كان حقيقة تحت مسمى واحد برأيي وهو منطق الغلبة والتركيع وسحق كل العقبات التي تحول بينه وبين النموذج الذي تربى عليه في سنوات " الجهاد" .
أما عن العنصر الثاني أي الغنيمة فالجولاني ومنذ البداية أفصح عن عقليته الغنائمية في العقل السياسي " الجولاني" فمنذ البداية ظهر عبر توزير أخيه ماهر الشرع في حقيبة الصحة في تكرار ليس إسميا يذكرنا بمعادلة بشار وماهر وأحمد وماهر بقدر ما هو تكرار لعقلية مستبد بنكهة أخرى ومن ثم تواجد أخيه الآخر حازم الشرع مسيرا لجلسة مجلس الوزراء ومرافقا لزيارات أخيه الخارجية دون توصيف حقيقي لدوره السياسي أو الاقتصادي وكذلك كان الأمر لدى عناصر هيئة تحربر الشام الذي وجد أحدهم نفسه وزيرا للدفاع بعد مشهد تحطيم تمثال السيدة العذراء بسنوات وذاك الذي كان قاضيا شرعيا في جبهة النصرة وجد نفسه وزيرا للعدل حتى قاضٍ صغير في سرمدا وجد له منصبا برتبة دكتور محافظ للسويداء بما يؤكد منطق القبيلة التي تتعامل فيه السلطة الانتقالية مع جمهورها قبل خصومها.
أما العنصر الثالث أي العقيدة والذي أوصى الجابري باعتباره رأيا يحتمل النقد والاجتهاد فقد جابت البلاد سيارات الدعوة في أحياء مسيحية في دمشق منذ البداية رافقتها منشورات دعوية تحدد لجميع الناس مع من يمشون وكيف يلبسون ولعل مشهد تكسير زجاجات المشروبات الروحية في السوق الحرة كان إيذانا بالقادم من الأيام التي جلبت معها المتطرفين من أمثال العرعور والمحيسني وحرضت آخرين وربما سهلت لهم عن قصد أو عن غفلة فوضى تفجير كنيسة الدويلعة بينما كان الأبرياء في صلاتهم ذات أحد بل ولم تتوانى السلطة الانتقالية في مرافقة سيارتها الدعوية الى السويداء رفقة مقاتليها وعصائبها الحمراء وعشائرها من تذكير الدروز بآية الحرابة وأثرها بحق المخالفين في الملة من تقطيع للأيدي والأرجل أقله كما يفهمها السلفيون.
بعد كل تلك الأدلة المثبتة بالوقائع الذي لا يستطيع أحد إنكارها وبعد مئات مقاطع الفيديو التي وثق فيها المجرمون لجرمهم الموصوف هل من عاقل يستطيع القول أن البنية التي يقوم عليها هذا" العقل" السياسي إنما هي بنية قبلية تكفيرية سلفية لا تقيم وزنا لاجتماع سياسي مبني على تعاقد اجتماعي رضائي يحترم الدستور والقانون والمؤسسات إسمه الدولة كما لا تقيم وزنا لمصالح الناس الاقتصادية عبر سلوكها الزبائني واتفاقياتها الخلبية مع شركات وهمية كما أنها لا تمت الى العقيدة الوسطية بصلة بل انها تشكل خطرا حقيقيا على التدين التقليدي في الشام عموما والذي لم يكن قبلا الا تدينا صوفيا يملك قابلية التجديد ويمتلك ناصية المعاصرة كيف لا ومنه خرج محي الدين ابن عربي وغيره من الأسماء التي لم تر وتفهم الاسلام كما يفهمه أولئك القادمون بمنطق المقصات والسيوف والولاء والبراء .
ليفانت: أسامة هنيدي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!