الوضع المظلم
الإثنين ١٨ / أغسطس / ٢٠٢٥
Logo
حين يخون الوطن نفسه
شادي عادل الخش 

في لحظة فارقة من تاريخ سوريا، تحوّلت محافظة السويداء من صوت خافت في هامش المشهد الوطني إلى مركز ثقل أخلاقي يكشف عمق التصدعات في مشروع الدولة.

 لم تكن راية غريبة رُفعت في ساحة هي القطيعة، بل كانت النداء الأخير في وجه خذلان طويل، والمجزرة التي سبقتها لم تكن أول الدم بل تتويجًا لمسارٍ من النبذ والعقاب الجماعي.

منذ سنوات، كانت السويداء تُحاصر بصمت، وتُعامل كمنطقة خارج المزاج الثوري المسلّح، دون أن تكون خارج الوطنية. امتنعت عن الانخراط في الاحتراب الطائفي، احتضنت المهجرين، ورفعت شعارات الحرية والعدالة ضمن إطار سلمي حضاري، لكن كل ذلك لم يشفع لها حين تقرر إذلالها، لا بسبب مواقف انفصالية مزعومة، بل لأنها لم تركع، ولم تبصم على مشاريع من خارج الضمير السوري.

 المجازر التي حصلت في تموز، لم تكن حادثا أمنيا بل خطة مدروسة نفذتها تشكيلات أمنية تتبع للسلطة المؤقتة، تحت غطاء التوحيد القسري للبلاد وفق تصورات مركزية سلطوية تنسخ نموذج النظام السابق، وتمنحه وجها جديدا.

ماتم تصويره بالكاميرات والمشاهد التي سربت كشفت مشاهد مروعة وإجرام لا يمكن للعقل تحمله: القتل على اساس الانتماء الطائفي، الإبادة الجماعية لعائلات بأكملها، إحراق الجثث والتمثيل بها، حلق الشوارب،إحراق المنازل وردم والآبار، قتل الطواقم الطبية، نهب الممتلكات، واختطاف النساء.. كل ذلك لم يكن انفعالاً ميدانياً، بل سلوكاً ممنهجاً.

 ورغم ذلك، الكثيرين سواء كانوا أفراد أو أطراف السياسية أو مجتمعية لم يبادروا الى الإدانة الصريحة لما حدث ويحدث، بل ساد صمت قاتل، أو تواطؤ مكشوف، أو انحياز إلى رواية السلطة الجديدة التي ما إن استقرت في العاصمة حتى بدأت تكرر جرائم النظام الذي سبقها.
 
في خضم هذا الجرح، رفع علم إسرائيل. ليس فعلاً بطولياً ولا وطنياً، ولا يمكن القبول به باي حال من الاحوال ولكن يمكن استيعابه حين تنقطع السبل، ويصبح شركاء الوطن إما مشاركين في الجريمة، أو مبررين لها أو صامتين. هنا يصبح رفع علم الأعداء صرخة يأس، نداء في الفراغ، موجّه إلى الاخ الذي ترك السويداء تواجه الوحشية والهمجية وحدها. فعل يائس من الضحايا لا يبرر ولا يمجَّد، لكنه لا يُستعمل ذريعة لتبرير المجزرة.

هنا كان دور إسرائيل، كعادتها، دخلت على الخط، مستثمرةً الجرح السوري، مقدمة نفسها كضامن لأمن الأقليات، فيما هي في الحقيقة تحفر في الجغرافيا السورية خطوط تماس جديدة، وتبحث عن وكلاء في بلدٍ ينزف سيادة وانتماء.

وفي المقابل ماذا لدينا؟ لدينا منظومة سلطة مؤقتة لم تبنِ عقداً وطنياً، بل فرضت نصاً استبدادياً. سلطة انتقالية تصرفت كسلطة أبدية، بنت دستوراً على مقاسها، همّشت المكونات، عززت الحضور العسكري والديني المتشدد، وأقصت القوى المدنية التي كانت عماد الحراك الثوري في بداياته. هذه السلطة مسؤولة عن تحويل المسألة السورية من مشروع تحرر إلى حالة انفجار داخلي، ومن حلم دولة مدنية جامعة إلى فضاء صراع مذهبي ومناطقي.

ولذلك اسمحو لي ان أتوقف عند سؤال الجوهري: ما هي الحكومة الانتقالية؟ إنها، وفق التعريفات القانونية والسياسية، صيغة مرحلية مؤقتة تنشأ عقب سقوط أنظمة استبدادية، هدفها الأساس هو تأمين العبور السلمي نحو نظام ديمقراطي مستقر، عبر آليات تشاركية وشاملة تضمن تمثيل كل مكونات المجتمع دون إقصاء.
 وهي تُفترض بها أن تُدار بتوافق وطني، لا بمنطق الغنيمة، ولا بمرجعية عقائدية مغلقة. 
ما حدث في سوريا هو العكس تماماً: سلطة مؤقتة استولت على دمشق بمعايير تشبه عقلية الفتح، وأعلنت نفسها سلطة نهائية باسم الثورة، فصادرت القرار، واحتكرت السيادة، واستبدلت النظام بسُلطة جديدة مغطاة بلغة دينية تعبوية، صيغت على شكل إعلان دستوري لا يمت بصلة لفكرة العقد الاجتماعي، بل أقرب ما يكون إلى "بيعة جهادية" لولي الأمر، منزه عن المساءلة.

إن الاستفراد بالحكم بعد الثورة يعيد إنتاج الاستبداد بوجوه جديدة، وأكثر خطراً حين يتلبس لبوساً ثورياً. لا يُبنى وطن بمصادرة الإرادات، ولا تُصان السيادة بإقصاء أبناء الجبل والبادية والساحل والقنيطرة ودرعا وحلب  والجزيرة والحسكة ودمشق.

 سوريا لا تحتاج إلى راية جديدة، بل إلى ميثاق جديد، وإلى مؤتمر وطني جامع وطارئ يضم كافة المكونات السورية، دون إملاء أو وصاية، لوضع حد لهذه المهزلة السلطوية. 
مؤتمر ينتج خارطة طريق لدستور سيادي حقيقي، ويُسقط فوراً الإعلان الدستوري القائم، ويُحلّ كل أشكال السلطة المبنية على المحاصصة الفصائلية والغلبة العسكرية.
 مؤتمر يُعيد الاعتبار إلى السياسة، لا إلى الفرض. ويضع تعريفاَ واضحاَ لماهية الدولة، ومهام المرحلة الانتقالية، وشروط العدالة، ومفهوم السلطة، وآليات صناعة التمثيل.

إن جريمة السويداء لا تسقط أخلاقياً ولا قانونياً، ولا يمكن طيّها بصمت. يجب تجريم كل من أمر ونفذ وخطط، ومحاسبته محلياً ودولياً، تماماً كما يجب فتح ملفات كل الجرائم المشابهة من مجازر الساحل إلى مجازر دمشق الى ريف حلب وحمص ودرعا. لا يمكن بناء دولة فوق عظام الأبرياء، ولا يمكن الصمت عن جرائم حرب تحت راية التحرير.

إن المسؤولية لا تقع فقط على من نفذ المجزرة، بل على من صمت، وبارك، ووجّه اللوم إلى الضحية. أولئك الذين استسهلوا التخوين، وسكتوا عن الحصار، وروّجوا لرواية الاستفزاز والانفصال، بينما كانوا يغضّون الطرف عن الجرائم ضد المدنيين. لم يُدن كثيرون المجزرة، لكنهم هاجموا راية غريبة رفعها اليأس في لحظة اختناق.

ما حدث في السويداء ليس شأناً محلياً، بل مرآة لمستقبل سوريا بأكملها. فإذا كانت المطالبة بالكرامة والتمثيل والعدالة تواجه بالحرق والقتل، وإذا كانت المطالبات بالحقوق تقرأ كمؤامرات انفصالية، وإذا تحوّل النقد إلى خيانة، فبماذا تختلف هذه السلطة عن النظام الذي سقط؟

السويداء لا تريد الانفصال، ولا تسعى لتفتيت البلاد. أهلها ليسوا خونة ولا عملاء. هم جزء أصيل من الهوية السورية، وأي مشروع لا يشملهم، لا يمكن أن يكون مشروعاً وطنياً. 

الحل لا يكون بالتخوين ولا بالقصف، بل بالحوار، والدستور، والمشاركة، والقانون. لا بد من إقرار مشروع سيادة دستورية جديد، يعترف بالتنوع ويؤسس لدولة لامركزية تمثل الجميع ولا تقصي أحداً.

إن مستقبل سوريا مرهون بكيفية التعامل مع جرح السويداء. إذا أُهملت، وإذا انتصر منطق السحق، فإن البلاد بأسرها ذاهبة إلى تفكك صامت لن توقفه الشعارات ولا الرايات. 

وإذا ما أُعيد الاعتبار للحقوق والكرامة، فإن السويداء ستكون بوابة ولادة جديدة لسوريا، لا مجرد شاهد على موتها.

ما نحتاجه ليس استعراضاً للانتصارات، بل شجاعة في مواجهة الذات. والاعتذار للشعب السوري عما ارتكب باسمه، هو بداية الطريق نحو سوريا ممكنة.

شادي عادل الخش
 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!