-
سوريا دولة تبحث عن ذاتها

لم تعد سوريا اليوم مجرد رقعة على الخريطة مزّقتها الحرب وشرّدتها النزاعات، بل تحوّلت إلى حقل اختبار معقّد لحقيقة ما يمكن أن يخلّفه تفكّك الدولة حين تتآكل الثقة بين السلطة والشعب، وتتداخل الأيدي الخارجية مع جراح الداخل المفتوحة. أربعة عشر عاما من الدم والدموع كانت كافية لإعادة تعريف معنى الوطن للسوريين، من مساحة جغرافية يلتقون تحت سمائها إلى خريطة مثقلة بالحواجز والحدود الداخلية والخارجية. وفيما تتكاثر الأعلام والرايات على تراب واحد، تظلّ الحقيقة الأشدّ مرارة أن كل هذه الرايات لا يمكن أن تمنح من فقد بيته وسلامه وأمانه شعورا بالانتماء إن لم يُستعد له أولا حقّه الطبيعي في وطن يليق بكرامته.
إن سوريا التي كانت قبل عقود ساحة لتلاقي الثقافات وعبور القوافل والتنوع الإنساني الخلّاق، أصبحت اليوم تجسيدا حيّا لما يمكن أن تفعله السياسات قصيرة النظر حين تُقصي مكونات بأكملها من دائرة الاعتراف. وليس غريبا أن يكون الكورد في قلب هذه المأساة المتجددة؛ إذ لطالما كان وجودهم امتحانا حقيقيا لفكرة المواطنة السورية، هل هي شراكة حقيقية أم هوية واحدة مفروضة على البقية بصيغٍ من التهميش والقمع الرمزي والفعلي؟
إن التدخلات الخارجية، مهما كانت شعاراتها، لم تكن لتترسّخ لولا الأرض الخصبة التي وفّرها غياب التوازن الداخلي. وحين غاب التمثيل الحقيقي للجميع، صارت الانقسامات الداخلية تُدار من الخارج وتُستثمر في المفاوضات والموائد المغلقة. هكذا أُعيد إنتاج خريطة للنفوذ لا تشبه خريطة الوطن، فتفكّكت الجغرافيا إلى مناطق نفوذ وتبعيات، وصار السوريون أنفسهم رهائن خطوط تماس مرئية وغير مرئية، بين معسكرات تتبادل الاتهامات والرصاص.
ولعلّ من المثير للمرارة أن القوى الدولية، التي تدّعي الحرص على استقرار سوريا، كانت في كثير من الأحيان وقودا لصراعٍ مستدام، حين قدّمت السلاح والمال لبعض الأطراف، وأغلقت الأبواب أمام تسويات واقعية كان يمكن أن تُنهي النزيف قبل سنوات. إن مشهد المخيمات على الحدود، ومشهد المقابر الجماعية، ومشهد العائلات التي ما زالت تنتظر خبرا عن أب أو أخٍ مفقود منذ سنوات، كلّها لم تكن لتتكرّر لولا أن سوريا حُرِمت من إرادة سياسية جامعة تستطيع أن تنتزع قرارها من أيدي المتصارعين خارج الحدود.
إن أي حديث عن الحدّ من التدخلات الخارجية لا يمكن أن يكون جادّا إذا لم يبدأ من الداخل، من إعادة صياغة العقد الوطني السوري على أسس جديدة، تعترف أن لا أحد يمكنه أن يحكم هذا الوطن وحده، ولا مكوّن يمكنه أن يستفرد بحقّ تقرير المصير بمعزل عن الباقين. إن الوطن الذي يتّسع للكورد والعرب والعلويين والسريان والآشوريين والتركمان والشركس والإيزيديين، لا يمكن أن يُختزل في هوية واحدة مسوّرة بالإنكار والإقصاء. وكلما تأخّر الاعتراف بهذه البديهة، كلما زادت شهية القوى الإقليمية والدولية لاستخدام التباينات كذريعة لبسط النفوذ.
والأخطر من التدخلات الخارجية، شبح الحرب الأهلية الذي ما زال يلوح في الأفق كلما اشتدّت أزمةٌ أو تراكم إحباط. إن ذاكرة السوريين مثقلةٌ بجروحٍ لا تزال مفتوحة، في قرى سُوّيت بالأرض ومدن اختنقت تحت القصف والحصار، وملايين عرفت قسوة اللجوء والنزوح. لذلك فإن فكرة العودة إلى السلاح بالنسبة للبعض تبدو دائما خيارا قائما حين تنعدم الثقة بمسار سياسي منصف. هنا تحديدا يكمن التحدي، كيف يمكن إقناع إنسان فقد كل شيء أن يصدّق من جديد أن دولة عادلة يمكن أن تحميه أفضل من بندقية يضعها على كتفه؟
إن الخطوة الأولى لتجنيب سوريا شرور الحرب الأهلية القادمة هي مصالحة لا تقوم على الخطابات والشعارات، بل على إجراءات ملموسة، إطلاق سراح الأبرياء من السجون، الاعتراف بالمظالم دون مواربة، تقديم ضمانات دستورية واضحة لعدم تكرار القمع. إن العدالة الانتقالية ليست ترفا أو شعارا مستوردا من تجارب الآخرين، بل هي ضرورةٌ كي لا تتحوّل المجتمعات المنكوبة إلى قنابل موقوتة جاهزة للانفجار عند أول فرصة.
ويتكامل ذلك مع إعادة هندسة المؤسسات الأمنية والقضائية. دولةٌ ما زالت أجهزتها تُدار بنفس العقلية التي أدارت القمع قبل الثورة، لن تتمكن من طيّ صفحة الماضي أو فتح صفحة جديدة نظيفة. إن من أبسط قواعد بناء الثقة أن يرى المواطن أن القانون هو الحَكَم، لا سطوة رجال الأمن أو تغوّل الفساد. وفي دولة دُمّرت بنيتها الاقتصادية، يبقى البعد التنموي حجر الزاوية، إذ لا يمكن بناء سلم اجتماعي حين تظل مناطق بأكملها مغمورة في الفقر والتهميش، وتُحرم من نصيبها من الثروة الوطنية.
أما الكورد، الذين ظلّوا على هامش السياسات المركزية عقودا، فإن شراكتهم في سوريا الجديدة يجب ألا تُختزل في مكاسب مؤقتة أو صلاحيات منقوصة تُمنح في لحظة ضعف وتُسحب في أول منعطف. إن ردّ الاعتبار للكورد يعني اعترافا دستوريا بهويتهم ولغتهم وحقوقهم الثقافية والإدارية، ويعني نظاما سياسيا يُدرك أن المركزية المطلقة لم تعد مجديةً ولا واقعية.
وهنا يلعب المجتمع الدولي دورا لا يمكن تجاهله. لقد جُرِّبت سياسات العزل والعقوبات والحصار والعسكرة، لكنها لم تُنتج إلا مزيدا من الأزمات. المطلوب اليوم أن يكون الضغط الدولي موجّها لدعم تسويات سياسية عادلة، لا لتغذية النزاعات أو تسليح الأطراف المتنازعة. إن تمويل إعادة الإعمار يجب أن يرتبط بشرط واضح، لا إعادة إعمار بلا إصلاحٍ سياسي حقيقي يضمن حقوق الناس ولا يكرر المأساة. كما أن المجتمع الدولي مدعوٌ للتوقف عن استخدام الملف الكوردي كورقة ابتزاز أو مساومة، لأن الكورد ليسوا أداة في لعبة التوازنات بل ركن أصيل في البيت السوري.
إن استعادة سوريا لعافيتها لا يمكن أن تأتي بقرار منفرد، بل هي نتاج إرادة جماعية تتجاوز منطق الغلبة والقهر، وتبحث عن صيغة يعيش فيها الجميع بكرامة متساوية تحت سقف دولة عادلة. وفي لحظة فارقة كهذه، لا يكفي أن نطالب الكورد أن يكونوا جسرا لوحدة البلاد دون أن نمنحهم أسباب الثقة، ولا يمكن أن يُطلب من المكونات المهمشة أن تضحّي من جديد بينما لا تجد ضمانة بعدم عودة الاستبداد بثوب آخر.
يبقى الرهان في نهاية المطاف على وعي السوريين بأن إعادة إنتاج الماضي ستقود حتما إلى تكرار الكارثة، وأن من لم يتعلّم من دروس الدم والخراب سيجد نفسه عاجلا أو آجلا أمام حرب أخرى أكثر شراسة وقسوة. وحدها المصالحة العادلة يمكن أن تُغلق الدائرة وتفتح بابا لمستقبل يليق بهذا الشعب المنهك. مصالحة تبدأ من الداخل، وتُبنى بإرادة حرة لا بإملاءات خارجية، وتجعل من التنوع السوري قوة لا عذرا للانقسام.
قد يبدو هذا المسار صعبا وطويلا، لكن البديل عنه هو استمرار الدوران في حلقة من الدم والفقر والتهجير والدمار. وأمام كل بيت مهدّم، وكل عائلة تفتقد ابنا أو أخا أو أبا، وأمام عينَي كل أم انتظرت جثمان ابنها على حاجز أو تحت الأنقاض، يقف التاريخ ليقول للسوريين، لقد دفعتم الثمن مضاعفا، فهل من سبيل أن تجعلوا هذه التضحية بوابة لحياة جديدة، لوطن يتّسع لجميع أبنائه؟
ربما كانت سوريا اليوم في أضعف حالاتها الجغرافية والسياسية، لكنها تظل تملك سرّ بقاء وحيد اسمه إرادة أهلها حين يقررون أن ينهضوا معا، ويزرعوا تحت الركام بذرة سلام لا يملك الخارج أن ينتزعها متى نضجت جذورها في قلوب الناس ووعيهم. عندها فقط يمكن لذاك الجسد المرهق أن ينتفض من ركام الخراب، ليقول للعالم إن شمس هذا الوطن لم تغب بعد، وإن شعبا تشرّب الألم حتى نخاعه قادرٌ أن يصنع من مصالحة حقيقية معجزة جديدة اسمها سوريا التي ولدت من جديد.
ليفانت:عزالدين ملا
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!