الوضع المظلم
الإثنين ٠٣ / نوفمبر / ٢٠٢٥
Logo
الاستثمار مفتاح الازدهار المستقبلي
إبراهيم جلال فضلون

الاستثمار مفتاح الازدهار المستقبلي

د. إبراهيم جلال فضلون

يقول الاقتصادي جوزيف شومبيتر: "الابتكار هو المحرك الحقيقي للتطور الاقتصادي."  وهذا ما تفعله السعودية اليوم لتؤسس لمرحلة غير مسبوقة من التحول الهيكلي في الاقتصاد السعودي. فمنذ انطلاق مبادرة مستقبل الاستثمار عام 2017، وانطلقت السعودية بثقة نحو إعادة تشكيل اقتصادها بما يتماشى مع مستهدفات رؤية 2030، لتصبح منصة اقتصادية عالمية تصنع واقعاً جديداً للاستثمار الدولي، أكدت أن المملكة تمضي في مسار صاعد قوامه الاستدامة والابتكار والتنوع الاقتصادي. وذلك بإبرام صفقات استثمارية تجاوزت قيمتها 250 مليار دولار منذ انطلاقتها قبل أقل من عقد، وهو رقم يعكس ثقة الأسواق العالمية ببيئة الاستثمار السعودية وقدرتها على تحويل الطموحات إلى مشاريع ملموسة.

يمتلك صندوق الاستثمارات العامة السعودي اليوم محفظة ضخمة تتجاوز 930 مليار دولار من الأصول، ويتجه بخطى ثابتة نحو بلوغ تريليون دولار قبل نهاية عام 2025، ليكرس مكانته بين أكبر الصناديق السيادية في العالم. وقد ارتفعت حصة استثماراته الدولية خلال السنوات الماضية من 2 إلى 30%، إلا أن استراتيجيته الجديدة تميل إلى إعادة التوازن نحو الداخل عبر خفض النسبة إلى ما بين 18 و20%، في خطوة تعكس تركيزاً متزايداً على تعزيز الاستثمارات المحلية وتحفيز النمو الوطني. وخلال الأعوام الأخيرة، ساهم الصندوق في تأسيس 92 شركة جديدة في قطاعات استراتيجية تشمل الطاقة، والتقنية، والبنية التحتية، والسياحة، ليصبح أحد أبرز محركات التحول الاقتصادي في المملكة. ومن بين تلك المشاريع ما يُعد من أكبر المبادرات الحضرية في العالم، إذ تصل تكلفة المدن المستقبلية إلى نحو 500 مليار دولار، وتمتد على مساحة 26 ألف كيلومتر مربع، مع هدف طموح لاستيعاب 9 ملايين نسمة في المستقبل. كما يتواصل العمل على إنشاء مطار دولي عملاق بطاقة استيعابية تبلغ 225 مليون مسافر سنوياً، إلى جانب الاستعداد لاستضافة إكسبو 2030 الرياض الذي سيدعو 197 دولة للمشاركة على مساحة تصل إلى 6 ملايين متر مربع، مع توقعات باستقطاب نحو 42 مليون زائر، ما يعكس حجم الطموح التنموي للمملكة.

ماذا يفعل الشرع في البيت الأبيض؟ صفقة أم تسليم للجنوب وارتهان دولي علني؟

أما على صعيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فقد سجلت السعودية أداءً لافتاً رغم التحديات الاقتصادية العالمية. إذ بلغت التدفقات الواردة 31.7 مليار دولار، بزيادة قدرها 3.4 %مقارنة بالعام السابق، في وقت تراجعت فيه الاستثمارات الأجنبية عالمياً بنسبة 10 % وخلال الربع الثاني من عام 2025، بلغت التدفقات الداخلة 24.9 مليار ريال (6.64 مليار دولار) بانخفاض 12 %على أساس سنوي، بينما سجلت التدفقات الخارجة 2.09 مليار ريال (0.56 مليار دولار) بتراجع حاد بلغ 75%، ما أدى إلى ارتفاع صافي التدفقات بنسبة 15 %ليصل إلى 22.82 مليار ريال (6.09 مليار دولار)، وهي مؤشرات تؤكد استمرار جاذبية السوق السعودية وثقة المستثمرين في استقرارها الاقتصادي.

وتتجه 90 % من الاستثمارات الجديدة نحو القطاعات غير النفطية، مثل التصنيع المتقدم، والتقنية، والسياحة، وريادة الأعمال، بينما لا تشكل المشروعات النفطية سوى 10  % فقط من الإجمالي. كما تجاوزت الاستثمارات في الشركات الناشئة حاجز مليار دولار، جاء 60 %منها من الشرق الأوسط، مما يعكس ديناميكية بيئة الابتكار وريادة الأعمال في المملكة. وعلى الصعيد المحلي، ارتفعت مساهمة الاستثمار المحلي لتشكل 30 %من الناتج المحلي غير النفطي، في حين واصل الاقتصاد غير النفطي تحقيق نمو مستقر يتراوح بين 4 و5%  سنوياً منذ عام 2017.

وفي موازاة ذلك، تسجل العوائد غير النفطية حضوراً متنامياً في تمويل المالية العامة، إذ تمول حالياً 40 %من الموازنة الحكومية، في تحول جوهري يؤكد صلابة الاقتصاد السعودي واستدامة نموه. كما ارتقى المشهد الاستثماري إلى مرحلة أكثر نضجاً، مع تجاوز عدد الشركات العالمية التي أنشأت مقارها الإقليمية في المملكة 540 شركة، متخطياً الهدف الذي كان محدداً لعام 2030 والبالغ 500 شركة، مما يعكس نجاح الإصلاحات الاقتصادية في تحويل الرياض إلى مركز إقليمي للأعمال وجاذب للشركات متعددة الجنسيات.

وفي قطاع الطاقة، تواصل السعودية الحفاظ على طاقة إنتاج نفطي ثابتة عند 12.3 مليون برميل يومياً، مع التزامها بالوصول إلى توازن بين التنمية الاقتصادية والاستدامة البيئية. وفي الوقت ذاته، تحقق الشركات الوطنية قفزات نوعية في التحول الرقمي، حيث تم توجيه استثمارات تفوق 6 مليارات دولار خلال العامين الماضيين نحو مشروعات التقنية والتحول الرقمي، مع خطط لضخ 2 مليار دولار إضافية خلال السنوات الثلاث المقبلة لتوسيع حضورها في مجالات الذكاء الاصطناعي والتقنيات السحابية. كما تسعى المملكة إلى زيادة إنتاج الغاز بنسبة 60% خلال السنوات الخمس المقبلة، في خطوة تهدف إلى دعم تنويع مصادر الطاقة وتعزيز أمنها.. في المقابل، يواصل قطاع السياحة نموه المتسارع، إذ يشكل حالياً نحو 10 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتسعى المملكة إلى مضاعفة هذه النسبة عبر توسيع البنية التحتية السياحية، وتطوير الوجهات الكبرى، وتعزيز الربط الجوي بين المدن والمناطق السياحية، ما يجعل من القطاع أحد أعمدة الاقتصاد غير النفطي الأكثر حيوية.

وتتزامن هذه التحولات مع نقاش عالمي واسع حول مستقبل الاقتصاد الرقمي، حيث تناولت جلسات مبادرة مستقبل الاستثمار محاور تتعلق بـ الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وسط توقعات بأن يصل عدد الروبوتات البشرية إلى 10 مليارات روبوت بحلول عام 2040، بأسعار تتراوح بين 20 و25 ألف دولار. وتشير التقديرات إلى أن الذكاء الاصطناعي الفائق سيتجاوز قدرات الدماغ البشري بما يصل إلى عشرة آلاف مرة بحلول عام 2035، ما يضع السعودية في موقع متقدم ضمن الدول الساعية لاستثمار هذه الثورة التقنية العالمية قبل أن تصل إلى ذروتها.

بهذه الديناميكية المتصاعدة، ترسم السعودية ملامح عقد اقتصادي جديد تتداخل فيه الطاقة، والتقنية، والاستدامة، والابتكار في معادلة واحدة. ومع اقتراب الأصول السيادية من حاجز التريليون دولار، وتوسع المشاريع العملاقة، ونمو القطاعات غير النفطية بوتيرة متسارعة، تبدو المملكة في طريقها لترسيخ موقعها كقوة استثمارية عالمية. إنها لا تنتظر المستقبل، بل تصنعه بخطى محسوبة ورؤية بعيدة المدى.

وكما قال بيتر دراكر إن: "أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي أن تصنعه"، واليوم يمكن القول إن السعودية تجسد هذه الحقيقة بالكامل، فهي لا تبتكر في المنتجات فقط، بل في فكر الاقتصاد ذاته، لتصبح نموذجاً عالمياً في كيفية التحول من اقتصاد يعتمد على النفط إلى اقتصاد يبني مستقبله على الاستثمار والعقول والطموح.

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!