-
نور الحكومة. ... وعتمة المواطن قراءة نقدية في تبريرات رفع أسعار الكهرباء
لم يكن رفع أسعار الكهرباء في سوريا مجرد قرار اقتصادي، بل خطوة سياسية تعبّر عن رؤية السلطة لطبيعة العقد الاجتماعي الجديد الذي تُرغِم به المواطنين.
في الوقت الذي يعيش فيه السوريون ظروفًا معيشية غير مسبوقة — بطالة مرتفعة، ركود اقتصادي، انهيار القدرة الشرائية — خرج وزير الاقتصاد الأستاذ نضال الشعار في حكومة السلطة المؤقتة بتصريحات حاول من خلالها تبرير القرار بلغةٍ أقرب إلى البيان الأخلاقي منها إلى التحليل الاقتصادي، متحدثًا عن "الرحمة والمسؤولية" و"الشفافية" و"الاعتماد على الذات".
غير أن هذا الخطاب، رغم زخارفه اللغوية، يعكس انفصالًا عميقًا عن الواقع، ويُخفي وراء مفرداته نزعة لتجميل عجز السُلطة بدل مواجهته.
"حين تصبح الرحمة والمسؤولية.. مفاهيم مُفرغة من معناها"
يقول الوزير الشعار إن على بلدٍ "ينهض من بين أنقاض الحرب" أن يوازن بين الرحمة والمسؤولية.
لكن أيّ نهضةٍ تلك التي تُبنى على أكتاف مواطنٍ يلهث وراء ربطة خبز أو ساعة إنارة؟
النهضة لا تكون برفع الأسعار، بل بإعادة بناء القدرة الإنتاجية والقطاع الصناعي الذي يشغّل الناس ويوفّر لهم سبل العيش.
أما “الرحمة” التي يدعو إليها الوزير، فكيف تتجلى في قرارٍ يزيد كلفة الحياة على من يعيشون أصلاً تحت خط الفقر؟
الرحمة الحقيقية هي سياسة اجتماعية عادلة، وليست موعظة بلاغية تُطلق لتغطية آثار قرارٍ قاسٍ.
فيما تُعاد إلى ذاكرة السوريون أسطورة الأسعار المصطنعة
أن تبرير القرار بأنه "تصحيحٌ للأسعار المصطنعة" يعيدنا إلى منطقٍ لطالما استخدمته الحكومات العربية حين تعجز عن إدارة مواردها.
صحيح أن الدعم العام قد يخلق تشوهات في السوق، لكن في اقتصادٍ منهك مثل الاقتصاد السوري، يصبح الدعم أداةً لحماية المجتمع من الانهيار، لا عبئًا عليه.
رفع الأسعار في غياب شبكة أمان اجتماعي وبرامج دعم مباشر للفقراء لا يندرج ضمن "الإصلاح الاقتصادي"، بل ضمن سياسات نقل الخسائر من الدولة إلى المواطن.
والأخطر من ذلك أن الحكومة تتحدث عن “التكلفة الحقيقية للطاقة” دون أن تنشر أي بيانات مالية شفافة توضّح بنود الهدر، أو كلفة الإنتاج، أو خسائر الفاقد الكهربائي.
كيف يمكن للمجتمع أن يصدق “إصلاحًا” لا يستند إلى أرقام معلنة ولا يخضع لتدقيقٍ مستقل؟
ليؤكد الوزير أن المرحلة الحالية تقوم على “المصارحة والشفافية”، لكن ما يجري عمليًا هو تكرار للنهج القديم بلغة جديدة ببساطة الشفافية غائبة.
فالمواطن لا يعلم شيئًا عن عقود استيراد الفيول، أو نسب السرقة الفنية، أو الأموال المهدورة في محطات التوليد.
الشفافية لا تتحقق بالتصريحات، بل بتقارير مفصلة تُنشر دوريًا وتخضع للرقابة والمساءلة.
في ظل غياب هذه المعطيات، يصبح الحديث عن “عدالة التسعير” نوعًا من التعمية السياسية لا الإصلاح الاقتصادي.
من نافلة القول : أن سوريا ما زالت واقعة تحت تأثير زعامات الحرب وبين أمراء أقتصاد الحرب حيث لا مكان للخطاب التنموي المراوغ
بينما يشير االأستاذ نضال إلى أن المدن الصناعية باتت تتمتع بتغذية كهربائية شبه دائمة، في خطوةٍ “لدعم الإنتاج وتشغيل اليد العاملة”.
لكن هذا التبرير يعكس اختلالًا في مفهوم العدالة الاقتصادية.
إذ كيف يمكن أن تُغذّى المدن الصناعية بالطاقة على مدار الساعة بينما تغرق القرى والأحياء السكنية في العتمة؟
هل العدالة أن يُموّل دعم الصناعة من جيب المواطن الذي لا يستهلك إلا القليل من الطاقة لتدفئة منزله أو تشغيل ثلاجته؟
ثم إن “تشغيل اليد العاملة” لا يكون برفع فاتورة الكهرباء على العاطلين عنها، بل بإعادة إحياء الاقتصاد الحقيقي، وضمان استقرار سعر الصرف، ومحاربة الاحتكار الذي يلتهم أي محاولة للإنتاج.
ألا تعتقد سيد نضال أن إتباع النهج المالي هو ليس بالبديل عن الرؤية الاقتصادية
حيث أن تعامل حكومة السُلطة الإنتقالية مع ملف الكهرباء يُظهر أن ما يُقدَّم اليوم كـ“إصلاح” ليس سوى نهج مالي ضيق يسعى إلى سد عجز الخزينة دون النظر إلى أثر القرار على البنية الاجتماعية.
فبدل معالجة أسباب العجز — كالهدر التقني، وفساد العقود، وضعف الجباية — تلجأ الدولة إلى أسهل الحلول: تحميل المواطن ثمن الإخفاق.
وهذا المنهج، تاريخيًا، هو ما يميّز الأنظمة الريعية حين تفقد قدرتها على تمويل نفسها من الإنتاج أو الضرائب العادلة، فتتحول إلى دولة جبايةٍ تبحث عن الإيراد في كل جيبٍ صغير.
لا يمكن لأي إصلاح اقتصادي أن ينجح في بيئة تفتقد الحد الأدنى من العدالة في توزيع الأعباء، ولا يُعقل أن تُدار الدولة بعقلية “تحصيل الفواتير” بدل بناء السياسات.
_سؤال سيادة الوزير ألا تجد هناك مفارقة كبرى بين مفهوم الحق والمطالبة بالقدرة على الدفع. ؟
لقد أختتمت معالي الوزير بيانه في المنشور بعبارة لافتة: “الكهرباء الموثوقة ليست منّة، بل حقٌّ أساسيّ”.
ألست مع بقية السوريون قي أنَّ الحق يفقد معناه حين يتحول إلى سلعةٍ لا يقدر المواطن على شرائها.
الحق في الكهرباء لا يتحقق برفع الأسعار، بل بضمان وصول الخدمة بشكل عادل ومستدام، وبكلفة تتناسب مع الدخل.
الحق لا يُمنح عبر خطبٍ وطنية، بل عبر سياسات ملموسة تعيد الثقة بين المواطن والدولة.
السيد الوزير من المفيد أن يكون هناك نية لإعادة بناء مؤسسات الدولة المحوكمة وقوننة عقلية السُلطة قبل إصلاح الفاتورة
إنّ قرار رفع أسعار الكهرباء في سوريا يكشف مأزقًا أعمق من مسألة تسعير الطاقة.
إنه يعكس غياب مشروع اقتصادي متكامل قادر على إدارة مرحلة ما بعد الحرب برؤيةٍ عادلة ومستقلة.
فلا يمكن لبلدٍ يرفع الأسعار دون إصلاح إداري ومؤسسي أن يدّعي السير نحو “الاعتماد على الذات”.
الإصلاح الحقيقي يبدأ من داخل مراكز السلطة ومؤسسات الدولة، من محاسبة المسؤولين عن الفساد والهدر، ومن إعادة تعريف العلاقة بين السُلطة و الحكومة والمواطن على أساس الحقوق والواجبات، لا التعليمات والجباية.
في النهاية، ليس رفع أسعار الكهرباء إصلاحًا، بل انعكاسٌ لعجزٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ طويل الأمد.
أعذرني العزيز نضال الشعار أن الخطاب الذي حاول تبريره لم يقدّم رؤية، بل قناعًا لغويًا لواقعٍ مرّ.
فمن دون شفافيةٍ حقيقية، وعدالةٍ في توزيع الأعباء، ومصارحةٍ صادقة مع المجتمع، ستبقى “الإصلاحات” في سوريا أقرب إلى إعادة إنتاج الأزمات بعباراتٍ جديدة.
الإضاءة لا تأتي من فواتير مرتفعة، بل من دولةٍ عادلة تنير الطريق بثقة، لا بعتمة الشعارات.
بقلم: السياسي والإعلامي : أحمد منصور
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

