الوضع المظلم
الأحد ١٩ / أكتوبر / ٢٠٢٥
Logo
السوريون النائمون في عسلِ التحرير...
عبير نصر

لم يكن سقوطُ نظام الأسد حدثاً مارقاً في سلسلة انزياحات المنطقة الدراماتيكية، بل بداية تحوّلٍ مصيري لأرضٍ مُتنازَع عليها، تتخبط بين مظلوميات مثخنة بالدماء وإملاءات إقليمية متضاربة. لكن هل هذا يعني، حقاً، ولادة "سورية جديدة" أو مجرّد تأهيلٍ وضعي للسيطرة الاستبدادية في ظلّ تصاعد نفوذ الإسلام السياسي والتراجع الخطير لامتياز الهوية الوطنية في بقعةٍ غارقة، أصلاً، في مستنقع التناقضات والأوهام المتراكمة، تحولت إلى عبء عالمي في حقبةِ ما بعد الكارثة الأسدية؟، بينما اللافت أنّ صنّاع القرار في العالم فضلوا التعامل مع "الشرّ المفيد"، واعتبار الشرع جزءاً من صفقةٍ سياسية رابحة، تضمن مصالحهم وتمنع الانهيار الكامل. 
في المقابل، وليس استناداً إلى تحليلاتٍ مواربة، فالوقائع تؤكد أنّ فرار بشار الأسد أخرج المسكوت عنه في البواطن، وعرّى الطائفية إثر الانتقام الوحشي من أبناء "الأقليات" مع وصول فصائل تكفيرية إلى الحكم. ومن تبعات ذلك، منظر تلك الطفلة "البريئة" بين أفراد الجالية السورية في أميركا "العلمانية" تحرّك أصابعها بتشفٍّ مقلّدة جريمة حلق شوارب الدروز. وفي القاع السوري الغاصّ بالمشوّهين والمنكوبين، باتت الكراهية منفلتة العقال بعدما انطلقت مظاهرات في دمشق تشتم رئيس الجمهورية المصرية، وأخرى تطالب بإسقاط حكم آل سعود نصرة لغزة!. وما يحدث يطرح تساؤلات ملحة حول ملامح سورية القادمة بينما يتحوّل النصر الصاروخي إلى شرارةٍ لمرحلة جديدة من العنصرية الملتهبة، تؤسس الاقتتال على شكل وهوية الدولة، ولا أجوبة يقينية قاطعة وسط تراجع المحددات الأخلاقية والإنسانية لصالح الضرورات الجيوسياسية. 
وفي ضوء المعطيات السابقة، وإذا أخذنا تاريخ سورية بعين الاعتبار، فالمعتاد أنّ النظام الشمولي يخلفه نظام آخر مماثل، أما الحكام المحافظون الجدد فلديهم خلفية جهادية استثنائية، ما يضعنا أمام نمط جديد ينقطع بشكلٍ جذري عن الماضي. وليست المشكلة، فقط، في حربٍ أهلية دامية أنهكت سورية تماماً، بل في شعبٍ ما إنْ خرج من "مزرعة الأسد" حتى أُصيب بصدمةٍ عميقة غوّلت مشاعر الانتقام من الآخر المختلف عرقياً وطائفياً، باعتباره "أسدياً"، وهذا أمر غير مفهوم، بالنظر إلى ديكتاتوريةِ نظامٍ طالت العلويين، مثلاً، بنفس قدر المجتمعات الأخرى، فما يميز عهد الأسد أنّ الظلم وُزّع بالعدل بين كافة المكونات السورية.
بصفةٍ عامة، أدلى أحمد الشرع بتصريحاتٍ واعدة لحماية "الأقليات"، لكن سرعان ما وجد نفسه محاصراً في تناقضاته، فالخلفيات السياسية والاجتماعية لأتباعه "السنّة" مختلفة تماماً عن تلك التي كانت سائدة قبل عام 1963. وثمّة مفارقة جلية أخرى في السياق، إذ وبعد وفاة حافظ الأسد تمكّن البرلمان السوري، خلال ساعاتٍ، من تغيير الدستور والسماح لبشار بخلافة والده، واليوم يُنصّب أحمد الشرع رئيساً من قبل فصائل جهادية في مؤتمرٍ خاص بذريعة الشريعة الثورية، ما عزّز شعوراً متزايداً بأنّ الرئيس المؤقت سيرسخ أركان سلطته معتمداً نفس أسس النظام البائد، مع تغيير الواجهة السياسية فقط.
كما لا يمكن في هذا المقال إغفال حقيقة أنّ التاريخ السوري يعيد نفسه اليوم على شكل مهزلة، والدليل صراخ ذاك الرجل من الجالية السورية إبان استقبالها الرئيس المؤقت في نيويورك: (مثلك ما جابت النسا.. ولا قمطت داية)، يجعلنا نتناول مجدداً دور البلاغة الإنشائية في إسناد العروش، ويبدو أنّ النظام الأبوي الذي صنعه حافظ الأسد، وكلّ ما بُني على سيطرته الغامضة، سيبقى تركة ثقيلة تؤرق كاهل السوريين، رغم أنّ الثورة السورية سحقت هامة القدسية التي أحاطت آل الأسد، لكن عقدة الأبدية ما زالت تعشش داخل ذهنية سوريين يجرّون بلادهم بخطى ثابتة نحو النموذج الأفغاني، ويتماهون مع وصف الشرع هزيمة الأسد بأنها "نصرٌ من الله"، الذي لم يذكر كلمة ديمقراطية قط، والتي نعتها في مقابلة له عام 2015 بأنها كفرٌ خالص، ويغيب عنهم أنّ من يكتب الدستور يحدّد مصير الدولة إلى الأبد. ومهما يكن من أمر ما تقدّم، يؤكد متفائلون بأنّ الانتقال إلى السياسة من موقع الجهاد قد يفتح باباً لسلمٍ أهلي مستدام، بينما يرى متشائمون أنّ ما حدث نتيجة تواطؤ عالمي يُعيد إنتاج استبداد جديد بغطاء دولي.
كما من المتوقع أن يكشف حكم هيئة تحرير الشام ما خَفِي في أروقة السياسة العالمية، وهو ليس مجرّد طارئ عابر بل أرضية جديدة لإعادة التشكل، مشبعاً بدوافع مذهبية خطيرة تدير عجلة التفسّخ الوطني الناعم وصولاً إلى كنتونات طائفية مُعلَنة. على التوازي تواجه الحكومة الانتقالية مأزقاً قانونياً فاقعاً، يتمثل في عدم وجود إطار دستوري يعكس التوافقات الوطنية، وإذا استمرت بالتركيز على الشرعية الخارجية وإقصاء سوريّي الداخل، فقد تغدو سورية استثناءً كارثياً في تجارب الانتقال السياسي في المنطقة لانعدام خريطةِ طريقٍ تؤسس جيشاً عابراً للطوائف، وتقلّص المدّ السلفي المتشدد، والأهم البحث عن توازناتٍ أمنية إقليمية تضع حداً للتقسيم، وكلها مؤشرات إلى أنّ واشنطن ترى في الشرع مشروع حكمٍ هشّ إن لم يخلع عباءة التطرف، حتى توماس براك، المبعوث الأميركي الخاص، وجه له نصيحة مباشرة: (غيّر نهجك قبل أن تعزلك الوقائع).
وهذا بالضبط ما تفتقر إليه السلطة السورية الجديدة: خيالٌ سياسي مرن، يُعيد تدوير الأحداث المستحيلة إلى ممكنة، وليس امتهان "دبلوماسية" كرة السلة والبلياردو، بينما يجدّد الرئيس الأميركي اعترافه بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان المحتلة، ويُقتطع الجنوب من الجسد السوري ليُرفع علم إسرائيل في القنيطرة، وسط اعتقال عنصرَي أمنٍ من درعا، وتجريدهما من أسلحتهما وثيابهما، إهانةً للشعب السوري برمّته..إلخ. 
ومن المتوقع أن يزداد طابع التأزم والاستعصاء سمة غالبة على جلّ التفاعلات والعلاقات، بعدما أكد الشرع أنّ مصلحة سورية في الإبقاء على "علاقات هادئة" مع روسيا، وبأنّ القطيعة مع إيران "لن تكون دائمة"، إذ تعكس تصريحاته أنه أقل انشغالاً بتعزيز أيديولوجيته من اهتمامه بترسيخ إمارته المَلَكية، وقد فشل في معالجة التشرذم الاجتماعي بعد مجازر الساحل والسويداء، وسط المواجهات العسكرية غير المنقطعة بين حكومة دمشق وقوات "قسد"، ما ينذر بحربٍ طاحنة لا تُبقي ولا تذر. وإلى جانب الحيوية الطائفية الصريحة والفشل في إنشاء آليةٍ واضحة تُعزز عملية عدالة انتقالية شاملة، يحذّر القائد السابق لوحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200، حنان جيفن، من أنّ سورية تتحول بسرعة إلى دولةٍ جهادية متطرفة، هي الأخطر في العالم، وستشهد في الفترة المقبلة أحداثاً خطيرة قد تغيّر المشهد الميداني والسياسي، على حدّ سواء.
هرب السفّاح السوري إلى غير رجعة، وما يحدث اليوم يبدو نبوءة مبكرة عما قاله عاموس جلعاد المستشار الاستراتيجي لوزير الدفاع السابق موشي يعلون: (سورية تموت، وسيعلن موعد الجنازة بالوقت المناسب. بشار الأسد ستذكره كتب التاريخ على أنه الرجل الذي أضاع سورية). 
 لكن هل سقط نظام الأسد حقاً بينما تقف سورية اليوم على عتبة الهاوية ذاتها؟، أما السوريون النائمون في عسلِ التحرير فيفوتهم أنّ الجهاديين متيقظون دائماً، ولا يبدّلون جلودهم إلا من باب التقيّة إلى حين التمكين. صفوة القول، أحمد الشرع، بما يمثّله من "تكيّف براغماتي" مدهش، يُعيد تعريف مفاهيم سياسية عدّة في منطقة الشرق الأوسط الملتهب، ويُعتبر إثباتاً حياً على هشاشة الحدود الوازنة بين الشرعية والشريعة، وبين الثورة  والإرهاب. 

ليفانت: عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!