-
في ظل انسداد الأفق السياسي السوري: الاختفاء القسري بين عدالة غائبة وصوت مفقود
في ظل انسداد الأفق السياسي السوري: الاختفاء القسري بين عدالة غائبة وصوت مفقود
زينه عبدي
لأكثر من عقد من الزمن، تعيش سوريا، ولا تزال في ظل المرحلة الانتقالية، واحدة من أشد الأزمات تعقيداً في تاريخها المعاصر بعد أربعة عشر عاماً من الحرب، ألا وهي إفراز واقع معقد مأزوم يفتقر إلى أدنى درجات الحل السياسي الجامع. فقد تشابكت خيوط هذه الأزمة مع مأساة إنسانية غائرة متمثلة بما يسمى” جريمة الاختفاء القسري”. في ظل الصراعات الداخلية السورية كان الصحفيون/ات متواجدين/ات وبصورة دائمة في الخطوط الأمامية لنقل الحدث إلى الرأي العام محلياً ودولياً، إلا أن الكثير منهم/ن قد دفعوا/ن ثمن القلم والكلمة والصورة، ما أدى لاختطافهم/ن وإخفائهم/ن عن الوجود، حتى صاروا جزءً من المأساة السورية الوطنية. إن هذه القضية لا يعد انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان فقط، بل يعكس بشكل مباشر الإخفاق في الوصول لحل سياسي شامل، ما يبرز الحاجة لتناول هذا الملف من أجل كشف الحقيقة وإنصاف الضحايا بمن فيهم الصحفيين/ات المختفين /ات قسراً.
الاختفاء القسري للصحفيين/ات رهينة الشلل السياسي
إن غياب الحل السياسي السوري لم يعلِّق فقط إنهاء الحرب ودوامته المستمرة حتى الآن، بل علّق أيضاً كبرى الملفات والقضايا ذات الطابع الإنساني، وعلى رأسها قضية الصحفيين/ات المختفين/ات قسرا والمغيبين/ات. غياب مسار واضح للعملية السياسية يبقي هذه القضية في إطار التأجيل والتهميش والإقصاء لا سيما في خضم الغياب شبه التام لملف العدالة الانتقالية خلال المرحلة الحالية في سوريا. هذا يعني أن ذوي الضحايا يعيشون مأساة مضاعفة بين الأمل واليأس: الحرمان من معرفة حقيقة مصير أبنائهم/ن وبناتهم/ن من جهة، ومن الاعتراف بمعاناتهم/ن نتيجة هذا الغياب من جهة أخرى.
هناك مفارقة عنيفة بحق هذه الفئة، فهي كانت تسعى دائماً لإظهار الحقيقة ونقلها كما هي، لكن الحقيقة نفسها أغلقت عليهم. لذلك منذ هروب الأسد بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 وإلى الآن، يتسع الشرخ بين صمت الواقع المتمثل بغياب الحل السياسي وذاكرة الضحايا التي تبحث عن العدالة، التي على ما يبدو في أطوار التأجيل إلى أجل غير مسمى، وهنا بات الاختفاء القسري ينتقل من مرحلة الجرائم الفردية إلى مرحلة الجراح العميقة والمفتوحة تعيق كل محاولات البناء ضمن مسار العدالة الانتقالية لتحقيق خطوات حقيقية وفاعلة لتكريس سلام مستدام.
وهذا ما أكد عليه تقرير أعدته اندبندنت عربية تحت عنوان” قبل أن تضيع سوريا “الممزقة” في عواصف الانتماءات”، حيث أوضح التقرير أن الكثير من المصطلحات الحقوقية كالعدالة الانتقالية، بما فيها ملف الاختفاء القسري فيما يخص الصحفيين وبقية الضحايا، لم تنفذ بشكل فعلي بسبب هشاشة التمثيل السياسي في آليات وأدوات السلطة الانتقالية الجديدة وتوسيع فجوة الثقة.
أيّ سوريا نريد؟
وقد شدد مقال في موقع The New Arab” ” تحت عنوان “التصالح مع الماضي في سوريا: الخطوات الأولى الهشة نحو العدالة الانتقالية” على آليات المصالحة حاليا التي بدورها تخدم وبصورة جلية ملف الإفلات من العقاب، وذلك يعود للغياب شبه التام للأطر القانونية بشكل شفاف، ما يحول ملف العدالة الانتقالية بما فيه قضية المختفين قسرا والمغيبين في المرحلة الانتقالية إلى رمزية جوفاء مصطنعة بمنأى عن أية نتائج حقيقية وفعلية على الأرض.
إضافة لذلك فإن تيار المستقبل السوري “”SFM كان قد أظهر عبر تقرير له عام 2024 بعنوان” العدالة الانتقالية في سوريا: التحديات والآفاق”، أن 95% من السوريات والسوريين حسب قراءتهم/ن للمشهد الراهن سورياً، أن غياب الحل السياسي بات العائق الجلي أمام تطبيق العدالة الانتقالية بما فيه كشف مصير المفقودين والمختفين قسرا والمغيبين/ات، لذلك شدد على إعطاء الأولوية والأهمية الوطنية الجامعة لملفي الحل السياسي والعدالة الانتقالية لضمان حصول الشعب السوري على حقوقه المسلوبة بمن فيه الصحفيين/ات المختفين/ات قسرا والمغيبين/ات.
الأثر المباشر على حرية الصحافة
في أوائل 2025، ظهر وزير الإعلام السوري محمد العمر آنذاك واعداً ب الحريات الصحفية بعد عقود من القمع والاستبداد وتكميم الأفواه، لكن ذلك لم يقابل بإجراء حيوي على الأرض، وظل ذاك الخطاب الرسمي دون ترجمة فعلية نحو حرية الصحافة والتعبير بما فيه الإفراج عن الصحفيين/ات المعتقلين/ات والمختفين/ات قسرا.
وفي ذات السياق، دعت منظمة “مراسلون بلا حدود”، ضمن تقريرها الصادر بتاريخ 7/1/2025، السلطات السورية الجديدة إلى التركيز على إجراءات من شأنها حماية الحريات الصحفية وتحسينها بل واعتمادها كأولوية قصوى أبرزها تحقيق العدالة للصحفيين/ات ضحايا نظام الأسد، وتوفير معلومات لكشف مصير المختفين/ات قسرا والمغيبين/ات بمن فيهم 25 صحفيا ممن انقطعت أخبارهم منذ سقوط الأسد الابن.
صدر الدستور السوري المؤقت الجديد الذي أقر في منتصف مارس/آذار متضمناً بنداً ينص على حرية الرأي والتعبير والصحافة والنشر(المادة 13)، إلا أن نسبة كبيرة من المختصين/ات شككوا فيه بسبب غياب الآليات الواضحة لحمايتها، بل وضعت شروطاً من شأنها تقييد هذه الحرية كالوحدة الوطنية والآداب العامة، الأمر الذي جعل الدستور غامضاً وغير كافٍ مع غياب الضمانات الدستورية، ما دفعت “منظمة مراسلون بلا حدود” للمطالبة بإطلاق سراح الصحفيين/ات المحتجزين/ات ومحاسبة الجناة ضمن تقريرها الصادر الآنف الذكر، إلا أنه قد قوبل بالتهميش ودون جدوى.
إن استمرار الانتهاكات من اختطاف وعنف واختفاء قسري الموجهة ضد الصحفيين/ات بصورة مباشرة، يُعتَبر من الإجراءات العقابية على التغطية الإعلامية. وستظل التغطية الصحفية محفوفة بالمخاطر ما دامت البيئة الانتقالية تعاني من غياب تفعيل إجراءات مثل محاسبة ومعاقبة المجرمين والمذنبين أو كيفية الحفاظ على إثباتات تلك الجرائم. على سبيل المثال جرى تحييد مباشر لبعض الصحفيين/ات خلال التغطية لأحداث الفتنة الطائفية في مدينة السويداء حسب لجنة حماية الصحفيين عبر تقريرها الصادر بتاريخ 22يوليو/تموز 2025.
غياب مجتمع مدني مستقل وبدون منصات معلوماتية أو أصوات فاعلة حقيقية ومحمية، يضع الصحافة الحرة في إطار التقييد والتصفية بلا منازع، ما يؤدي إلى غياب الحريات الصحفية الذي يقوض القدرة على رصد وتوثيق الانتهاكات الصحفية من بينها الاختفاء القسري والتغييب أو بناء ذاكرة جمعية، كما أنه يهدد ويجعل المساعي والجهود نحو المصالحات الفعالة الحقيقية في خطر وتهديد مستمرين. يضاف إلى ذلك الانتشار الشاسع للمعلومات الكاذبة والحملات التضليلية على منصات التواصل الاجتماعي من ضمنها الصور المفبركة والأخبار المضللة.
إن غياب الحل السياسي السوري، رغم تغير طرف الحكم في دمشق، يعني أن الحريات الصحفية لا تزال في مرحلة انتقالية خطيرة وناقصة بسبب التهديدات الأمنية والقانونية التي تفقد القدرة على الوصول لمسار الحقيقة. وما لم تُنعَش حرية الصحافة كراسخ وركيزة أساسية للمساءلة والعدالة والديمقراطية في السياق الراهن، ستكون عملية بناء السلام الحقيقي بما فيها المصالحة الوطنية الجامعة مسألة صعبة المنال.
معالجة الأزمة
لفتح مسار سياسي جامع وحوار سياسي شامل وحقيقي، لا بد من الضغط على كافة الأطراف السورية وكذلك الداعمة خارجياً، ما يضع ملف العدالة الانتقالية وعلى وجه الخصوص قضايا المختفين قسرا والمغيبين بمن فيهم الصحفيين/ات على رأس قائمة الأولويات. ولتفعيل هذه العدالة لا بد من تشكيل لجان تحقيق مستقلة تعمل بشكل حيادي ضمن صلاحيات جلية لمساءلة ومحاسبة مرتكبي جريمة الاختفاء القسري للصحفيين/ات، بما يضمن حقوق الضحايا في كشف الحقيقة وتعويضهم.
ولتوثيق حالات الاختفاء القسري والمفقودين من الصحفيين، يجب تقديم الدعم اللازم لعمل المنظمات ذات الصلة محليا ودولياً بما فيه جمع البيانات والشهادات وتحليل المقابر الجماعية ضماناً لحقهم في الذاكرة الوطنية. ولتعزيز المساءلة والرقابة لا بد من تمكين منظمات المجتمع المدني والصحافة المستقلة لأداء مهامهم المهنية بحرية تامة مع توفير منصات آمنة ومحمية للنشر. وإشراك المجتمع الدولي والهيئات المرتبطة به لا سيما الحقوقية والأمم المتحدة لضمان عدم الإفلات من العقاب.
من الإجراءات المساهمة لمعالجة الأزمة، اتخاذ آليات حماية لا سيما للصحفيين/ات المستقلين/ات، والتطبيق الفعلي للقوانين على من يهدد أو يغيب قسرا الصحفيين/ات، بالإضافة للعمل على ضمان حرية الرأي والتعبير والنشر وفقا لمعايير مهنية وضوابط أخلاقية. ويبقى غياب الإرادة السياسية السورية حجر الأساس في توسع واستمرار مأساة ملف الاختفاء القسري والتغييب للصحفيين والصحفيات، ما يؤدي لإطالة عمر الصراع وترسيخ ملف المختفين كجريمة عالقة دون إنصاف الضحايا أو كشف الحقيقة، ويبقى هذا الملف جرحاً مفتوحاً وعميقا بلا علاج، وهذا يعني أن العدالة الانتقالية تبقى بمنأى عن أي مسار عملي حقيقي بإطار صامت متحولة بذلك إلى شريك في الجريمة، ما يجعل صوت الصحافة مكبوتاً بعيداً عن ممارسة مهامها الطبيعية في إعادة بناء المساءلة والثقة من جديد. إن أي أفق حقيقي وفاعل لبناء السلام أو إعادته يتطلب حلا سياسيا حقيقيا وصادقا، مسارات فعالة للعدالة الانتقالية ودعم متواصل من المجتمع الدولي. لذلك لا يمكن تحقيق مستقبل أفضل وأكثر عدلا إلا بإيلاء الأهمية القصوى لقضية الصحفيين/ات المختفين/ات قسرا والمفقودين/ات ضمن مسار العملية والتسوية السياسية وبناء سوريا جديدة قائمة على الكرامة والعدل.
ليفانت نيوز - سوريا
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

