الوضع المظلم
الإثنين ٠٣ / نوفمبر / ٢٠٢٥
Logo
  • الإعلام العربي بين تلميع السفهاء وإقصاء الكورد.. لغة الحق تُمنع ولغة الحقد تُذاع

الإعلام العربي بين تلميع السفهاء وإقصاء الكورد.. لغة الحق تُمنع ولغة الحقد تُذاع
محمود عباس

أناشد اليوم قيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والإدارة الذاتية، والهيئة الكوردية المنبثقة من مؤتمر قامشلو، وعموم الحراك الكوردي في غربي كوردستان بكل أطيافه، وكذلك الإخوة المحللين والمتحاورين من على الشاشات مع الأطراف المعادية والمتربصة بالشعب الكوردي وقضيته ومستقبل وطنه، أن ينتقلوا من لغة النأي بالنفس والدفاع الهادئ عن الذات إلى لغة الندية والمواجهة، فالرعاع والخبثاء والمنافقون والحاقدون لا ينفع معهم سوى اللغة التي يعرفونها، بل والأقسى منها.
لقد آن الأوان لترك لغة الاستجداء والمجاملة والطيبة المفرطة، تلك التي تحوّل المظلوم إلى متهم، والشجاع إلى متنازل، والوطن إلى هامشٍ في خطاب الآخرين، لقد سئمنا الهدوء الذي يُقرأ ضعفًا، والصبر الذي يُفسَّر خنوعًا، والاعتدال الذي يُكافَأ بالإلغاء، وممارسة السياسة على أنها خداعٌ مشروع، ومحاولة بناء الوطن السوري على أنها جريمة تقسيم وتجزئة.
ولا يُخفى أن أغلب المحللين والمتحاورين من الإخوة الكورد، الذين آمنوا بالوطن والمساواة، والذين حملوا لغةً نقيةً صادقةً وصادمة تعبّر عن وجع الحقيقة وكرامة الفكرة، قد جرى إقصاؤهم عن معظم الأقنية العربية كـ (العربية والحدث والجزيرة وغيرها) لأنهم تكلّموا بصدقٍ لا يُشترى، وبمنطقٍ لا يُروَّض، ولأنهم واجهوا الخطاب المزيّف بالحقيقة العارية. وبالمقابل، تم تلميع السفهاء وتعويم الجهلاء (وجوه أصبحت اكثر من معروفة) أولئك الذين جعلوا من العنصرية منبرًا، ومن الكراهية مهنةً، فاستُبدلت لغة العقل بالضجيج، وصوت الحكمة بنعيق الحقد. لقد اعتلى المشهدَ الإعلامي حملةُ الغباء المستفحل واللغة الموبوءة، بينما صمتت الأصوات التي كانت تبني بالحوار وطنًا يتّسع للجميع، لا وطنًا يُدار من غرائز الثأر وحنجرة الحقد.
علينا أن نعيد تعريف الحوار لا بوصفه تبريرًا للوجود، بل إعلانًا للحقّ في الوجود، فالصمت أمام التشويه لم يعد حكمة، بل خيانة لدمٍ ما زال طريًّا على تراب كوردستان.
علينا أن نتحدث بلغةٍ تليق بكرامتنا وبأمتنا الكوردستانية، لا بلغة الخوف والاعتذار، فلقد أثبتت السنوات الماضية أنّ الحديث باسم “الوطن السوري” لم يَجلب لنا سوى الألم، وأنّ هذا المفهوم أصبح فخًّا سياسياً يُعيدنا إلى مستنقع الأنظمة الاستبدادية ذاتها، لكن بوجوهٍ جديدة أكثر نفاقًا وعداءً للكورد.
فلنتحدث عن القضية الكوردستانية بوضوحٍ وجرأة، ولنعلن أنّنا أصحاب حقٍّ تاريخيٍّ وإنسانيٍّ فيما نؤمن به ونطمح إليه، وأنّ لغتنا الجميلة ليست ضعفاً، بل خلقٌ حضاريٌّ ينتمي إلى مدرسة الإنسانية، وأنّ حلمنا في بناء وطنٍ عادل لا ينتقص من أحد، بل يرفع الجميع إلى مستوى المساواة.
لقد واجهنا أعتى الأنظمة، وصمدنا حين كانت قوى العالم تتواطأ على سحقنا، ولم نتخاذل حتى في أشدّ لحظات الضعف، كانت إرادة الصمود، والإيمان بالقضية، والصبر قوتنا في المواجهة والحفاظ على هويتنا وكياننا، فهل يُعقل أن نستمرّ اليوم في مجاملة خطابٍ مريضٍ غارقٍ في الكراهية، ونمنحه فرصة لينطق باسمنا وباسم وطننا؟ ونحن في مرحلة كسبنا الكثير بدعم من الدول الكبرى، ولا نزال، لأننا نقدم خدمات للعالم بمحاربة الإرهاب مقابل بعض من الحماية في مواجهة أبغض واشرس الأعداء.
إنّ خصومنا لا يفهمون لغة المساومة ولا يستوعبون لغة الخير، إنّهم يُعادون الرحمان ذاته إن تكلّم بالصدق عن الكورد، ويكفّرون على مبدأ القومية لا على مبدأ الدين أو المذهب، هم مرضى بهوس العرق، يرون في الكوردي تهديدًا، حتى لو صار ملاكاً.
ولذلك لا الرباط الوطني ينفع معهم، ولا عمق العلاقة الإلهية يشذبهم، لأنّهم تربّوا على الكراهية وورثوها جيلاً بعد جيل.
وفي مساءٍ آخر من مسرح الأكاذيب الممنهجة، كانت شاشة قناة "سوريا اليوم" – اللسان الناطق باسم ما تُسمى بالحكومة السورية الانتقالية – تعيد إنتاج خطاب الحقد ذاته، بوجهٍ جديدٍ وصوتٍ أكثر تزلفًا. جلست المذيعة المحجبة، التي يُفترض أن تكون صوتًا للحوار، تمارس وصاية فكرية على الضيوف، تهاجم من تمليه عليها الجهة المموّلة، وتُخفي خلف جديتها المصطنعة خنجرًا مسمومًا موجّهًا نحو قوات سوريا الديمقراطية، وعمق الوجود الكوردي في غربي كوردستان.
لم يكن الحوار الذي جمع العميد زياد حاج عبيد، القادم من تركة النظام البعثي المتآكلة، والدكتور خالد جبر، سوى مرآةٍ جديدة تُظهر أن الذهنية الإقصائية لم تسقط مع سقوط التماثيل، وأن ما يُسمى بالمعارضة السورية لا تزال أسيرة عقلٍ بعثيٍّ قديم، يرفض الآخر وينكر تاريخه، حتى وهو يتحدث بلهجة الوطن. كانت المذيعة، بما حملت من سُمٍّ ناعمٍ وحقدٍ لامعٍ، تحاول تحويل الحوار إلى محاكمة، وتُمارس دور الادعاء العام ضد من يُفترض أن يكونوا شركاء في وطنٍ واحد. وبدل أن تُنصت لصوت التضحيات التي حرّرت نصف سوريا من الإرهاب، راحت تُعيد إنتاج أسطوانة التخوين القديمة، مستحضرة قاموس السلطة نفسها التي أسقطت شعبها في الهاوية.
لقد آن للكورد أن يواجهوا الخطاب المسموم بخطابٍ واعٍ لا يقلّ صلابة، وأن يضعوا حدًّا لثقافة الدفاع المترجّف أمام آلة إعلامية مسيّسة لا تؤمن بالحوار ولا بالوطن. فالسكوت عن السمّ لا يُبطله، بل يجعله يسري في الجسد الوطني حتى يُشلّ، وما لم تُرفع لغة الوعي في وجه لغة الحقد، سيبقى التاريخ يُكتَب بأقلامٍ مأجورةٍ، ويُذاع من أفواهٍ مريضةٍ تتقن العواء أكثر مما تعرف معنى الوطن.
إنّ ما يجري اليوم في سوريا، هو استنساخ لنهج الاستبداد، الذي أتسم به معظم الأنظمة السابقة منذ تكوين الدولة اللقيطة سوريا في العشرينات من القرن الماضي وحتى اليوم، تبدأ به هذه الحكومة بالمرونة المصطنعة، لتغرس جذورها، ثم تُظهر أنيابها العنصرية ذاتها.
لذلك على الهيئة الكوردية التي ستحاور دمشق، وعلى قيادة قسد والإدارة الذاتية، أن تدرك جيداً أنّ لغة الحقّ لا تُقال همسًا.
وإنّ المرحلة المقبلة لا تحتاج إلى حسن النية بقدر ما تحتاج إلى وضوح الإرادة وصلابة الخطاب.
احذروا أن تظنوا أنّ الحوار المرن حكمة في زمن العاصفة، إنّ ما يُطبخ في مطابخ السياسة السورية الجديدة ليس مشروعَ دولةٍ، بل استنساخٌ لظلال الطغيان القديمة في ثوبٍ انتقاليٍّ مُخادع.
لقد آن أن تُرفع راية الكرامة الكوردستانية عاليًا، لا كرمزٍ للتمرّد، بل كحقٍّ للحياة فوق أرضٍ تشهد على من حماها وصانها.
ولْيُدرك خصومنا أنّنا لم نُخلق لنُستدرج إلى لغتهم، بل لنعيد خلق اللغة الحضارية من جديد على مقاس الأوطان.

د. محمود عباس
 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!