-
الصحافة والهوية السورية

في زمن تتكسّر فيه الحقائق كما يتكسر الزجاج الهشّ، وفي لحظة سياسية يختلط فيها الأمل بالقلق، تغدو الكلمة الصادقة محاولة شاقة لاستعادة المعنى في وطن مزقه الاستبداد والحروب. سوريا، الخارجة من تحت ركام خمسة عقود من القمع، ومن تحت رماد حرب التهمت الذاكرة والهوية والروابط الإنسانية، لا تحتاج فقط إلى نصوص دستورية جديدة أو مؤسسات مشكّلة باتفاقات سياسية، بل إلى ضمير وطني جديد، يولد من رحم الحقيقة
في هذا المنعطف الحاسم، لا يعلو صوت أصدق ولا أنبل من صوت الصحافة الأخلاقية، تلك التي لا تكتب بالحبر وحده، بل تُخطّ سطورها بالألم، وبثقل المسؤولية، وبالشجاعة التي تتيح لها النظر في أعين الأمهات المفجوعات والناجين المثقلين دون أن تلوذ بالصمت أمام الأسئلة الكبرى: من نحن؟ وإلى أين نتجه؟
الصحافة الأخلاقية ليست مجرد التزام مهني أو تقني، بل موقف وجودي في معركة إعادة تعريف مفهوم الوطن. فبعد أن تهدّم جدار الصمت الذي بناه النظام البائد بأحجار الخوف والتزييف، تعالت أصوات كثيرة، منها من سعت لكشف الحقيقة، ومنها من أرادت إعادة تدوير الأكاذيب لمصلحة قوى جديدة. وحدها الصحافة الأخلاقية ترفض أن تتحول إلى صدى أو ساحة لتصفية الحسابات، وتتمسك بدورها كمساحة للعدالة والتوثيق النزيه والحوار الجريء. وفي سوريا اليوم، حيث الدماء لم تجف، والذاكرة لا تزال مرتعشة، تصبح الصحافة الأخلاقية ضرورة لا تقل عن حاجتنا للهواء أو لنبض القلب.
المرحلة الانتقالية، بما تحمله من هشاشة وارتباك، من تحوُّلات دراماتيكية وصراعات على الرمزية والتمثيل، تضع الصحافة في اختبار قاس. الصحافي هنا ليس ناقلاً للأحداث فحسب، بل حارساً لذاكرة الناجين، وشاهداً على تشكُّل الدولة من جديد. لا يستطيع أن يكون محايداً بين الضحية والجلاد، ولا أن يتعامى عن الظلم تحت ذريعة المهنية المزيّفة. بل عليه أن يكون ضميراً حيًّا، يرصد، ويُدقّق، ويُحاسب، ولكنه في الآن ذاته لا يُحرّض، ولا يُقصي، ولا يُغذّي الانقسام.
في سوريا، حيث تشظّت الجغرافيا والمجتمع، واختلطت الولاءات بين الداخل والخارج، وصارت الحقيقة نفسها محلّ شك وتشكيك، تبدو الصحافة الأخلاقية ضرورة لا غنى عنها لبناء أي عقد اجتماعي جديد. فالدولة لا تُبنى فوق الركام فقط بالجرافات، بل فوق الألم بالصدق. تحتاج سوريا إلى إعلام يعترف بالتعدد، يروي حكايات المهجّرين بصدق، ويعطي لكل مكوّن حقه في الظهور، لا كضحية فحسب، بل كمشارك في صناعة المستقبل. الصحافة الأخلاقية تعني أن لا ننسى، ولكن ألا نستخدم الذاكرة كسلاح. أن نحفظ تفاصيل المجازر، ولكن لا نُحوّلها إلى مبرر لمجزرة جديدة.
في وطن متعدّد الهويات كـ سوريا، حيث يتشارك العرب والكُرد والتركمان والآشوريون والسريان والدروز والعلويون والإسماعيليون والمسيحيون والسنّة في الجغرافيا والتاريخ، تصبح الصحافة الأخلاقية دعامة أساسية للحفاظ على نسيج المجتمع. الإعلام الذي يحترم هذا التنوع، ويمنحه حيّزا عادلاً في التغطية، يكون شريكاً حقيقياً في بناء الوطن الجامع لا الوطن المفروض. حين يتحدّث الإعلام عن الكُرد كجزء أصيل من الحكاية السورية، لا كملحق أو هامش، وحين يروي مأساة سراقب بلهجة لا تقل ألما عن مأساة عفرين أو رأس العين، نكون قد اقتربنا من المعنى العميق للمواطنة.
العدالة في السرد، والإنصاف في نقل الوجع، هو أول طريق التفاهم بين المكوّنات، لا المؤتمرات ولا الوثائق الدستورية. ومن هنا، تصبح الصحافة الأخلاقية ليست فقط أداة للتوثيق أو الإعلام، بل جزءاً لا يتجزأ من مشروع المصالحة الوطنية. هي التي تفتح المجال للاعتراف، وتخلق مساحة لصوت الضحايا، وتتيح للمجتمع أن يرى نفسه في مرآة الحقيقة، مهما كانت قاسية. فبدون هذا الاعتراف، لن يكون هنالك سلام، بل هدنة هشّة سرعان ما تنفجر.
الصحافة الأخلاقية تساعد السوريين على العبور من ضيق الانتماءات الجزئية إلى أفق وطني أوسع، من خطاب التخوين
إلى خطاب التفاهم، من سردية "نحن وهم" إلى "كلّنا كنّا في الجحيم، والآن نبحث عن طريق إلى الضوء".
ولا يُمكن إغفال العامل الإقليمي والدولي في تشكيل البيئة الإعلامية السورية الجديدة. فمع تنوّع وتكاثر وسائل الإعلام، ومع تمويلات سياسية قادمة من كل الاتجاهات، تراجع الخط المهني أمام الإملاءات، وأُفرغت الكثير من المنصات من رسالتها الحقيقية. وهنا بالضبط تتعاظم الحاجة إلى إعلام أخلاقي، مستقل، يلتزم بالحقيقة حتى وإن كانت مُرّة، ويُراكم الثقة بينه وبين الجمهور الذي تعب من الاصطفافات. إن صحافة من هذا النوع ليست رفاهية نخبوية، بل ضرورة مجتمعية وسياسية وأخلاقية لضمان ألا تُولد سوريا الجديدة مشوهة في إعلامها كما وُلدت مشوهة في استبدادها السابق.
الصحافة الأخلاقية لا تعني الحياد بين الخير والشر، بل تعني النزاهة في نقل المعطيات، والدقة في السياق، والتوازن في السرد، والمسؤولية في الأثر. تعني ألا تُستعمل آلام الناس كمواد خام في بازار المتابعة والتفاعل، وأن تكون صورة الشهيد والناجي واللاجئ محمية بكرامتها الإنسانية، لا مُستباحة من أجل قصة مؤثرة. وفي هذا الإطار، تصبح الصحافة الأخلاقية خط الدفاع الأول عن كرامة الضحايا، وحصناً مانعاً ضد توظيف معاناتهم في صراع الخطابات المتناحرة.
اليوم، في لحظة التأسيس، يمكن للصحافة الأخلاقية أن تعيد ترتيب العلاقة بين المواطن والمعلومة، بين الدولة والمجتمع، بين الذاكرة والمستقبل. إنها تخلق منبراً آمناً للحوار بين المختلفين، وتُسهم في صنع وعي جماعي مقاوم للتضليل، ومحصّن ضد التطرف. من خلال السرديات المتوازنة، تستطيع أن تُحصّن المجتمع من الاندفاع وراء روايات الكراهية، وتُؤسس لذاكرة وطنية حقيقية تُستخدم لاحقاً في آليات العدالة الانتقالية، لا في كتابة تاريخٍ مفخّخ بالانتقاء والتحيّز.
في المستقبل، حين تبدأ المؤسسات السورية بالتشكل الفعلي، لن يكون هناك معنى للمواطنة دون إعلام يراقب السلطة، ويفضح الفساد، ويُنبّه من الانحرافات قبل أن تتحول إلى سلطوية جديدة بوجه ديمقراطي. الصحافة الأخلاقية، بمصداقيتها واستقلاليتها، ستكون حجر الزاوية في ترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة، وفي بلورة ثقافة سياسية جديدة تحترم العقل والمعلومة والاختلاف. وهي أيضاً من يُمكنها أن تُعيد تشكيل هوية سورية جامعة، لا تنكر الخصوصيات ولكن تُؤمن أن الوطن لا يُبنى إلا على قاعدة الاعتراف المتبادل والمواطنة المتساوية.
سوريا لا تحتاج فقط إلى إعادة إعمار العمران، بل إلى إعادة إعمار الضمير. وهذه مهمة لا ينهض بها سوى من امتلك الشجاعة أن يقول الحقيقة، وسط ضجيج المصالح، وصخب الولاءات، ورغبة البعض في طيّ الصفحة دون قراءتها. الصحافة الأخلاقية هي من تُمسك القلم لا لتُسكت الألم، بل لتُدوّنه بكرامة، ولتُذكّر الأجيال أن ما جرى لم يكن خطأً في الحسابات، بل جريمة في حقّ الإنسان. إنها روح العدالة في جسد الإعلام، وأمل الخروج من مرحلة الصمت إلى مرحلة الصوت الحر، المسؤول، الشريف.
في نهاية المطاف، سيكون مستقبل سوريا مرهوناً بمستقبل صحافتها. فإن كانت حرة ومستقلة وأخلاقية، سيكون الوطن قابلاً للنهوض من جديد، وسيكون للمواطن معنى، وللعدالة حضور، وللذاكرة كرامة. أما إن تحولت إلى أداة جديدة في يد السلطات، أو إلى سوق للبيع والشراء، فعندها لن تكون لدينا دولة بل كيان هشّ يُعيد إنتاج القمع بثوب جديد. لهذا، فإن الدفاع عن الصحافة الأخلاقية اليوم ليس دفاعاً عن مهنة، بل عن الوطن، وعن الإنسان السوري بكل لغاته ولهجاته وأديانه ومآسيه وآماله. دفاع عن الحق في الحكاية، والحق في الحقيقة، والحق في مستقبل لا يُبنى على الأكاذيب.
ليفانت: عزالدين ملا
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!